السينما تنتزع الشعر من القصيدة

من الصعب ضبط مفهوم الشعرية في سياق نقدي جازم أو حصرها ضمن قاعدة أو قالب معين لأنها هلامية.
الأحد 2022/06/05
كل ما تحتاجه هو الخيال لتشاهد الفيلم

لا يتوقف الشعر عند حدود القصيدة أو النص المكتوب أو المنطوق، بل هو جوهر يحل في فنون أخرى كثيرة بداية بالمسرح الذي خرج من جبة الشعر والشعراء، إلى فنون النحت والتشكيل والرسم والصورة والسينما، وغيرها من فنون كثيرة استفادت بشكل واسع من الشعر ووظفته في عجينتها. لكن حضور الشعر في الفنون الأخرى لطالما ترافق مع جدل واسع، إذ لا تتوقف السجالات الفكرية والجدل الذوقي والجمالي حول ضرورة حضور الشعر من عدمه، جدل لم يحسم حتى الآن. وفي كتاب جديد يقدمه الناقد الجزائري عبدالكريم قادري نعود للوقوف على تخوم هذا الجدل.

يقول لويس أراغون ”لا ينبغي البحث عن الشعر، إنه يوجد”. ويرى تاركوفسكي في مفهوم السينما الشعرية أنها تعني ابتعادها عما هو واقعي وكائن لمصلحة حضور الحياة بشكل مختلف من خلال الرصد لها في وحدة تركيبية خاصة بها.

ويتابع تاركوفسكي عن علاقة السينما بالحالة الشعرية أنها “تكمن في تصعيد الشعور وتعميقه، ليصير المتفرج فعالاً أكثر. ويصبح مشاركاً في عملية اكتشاف الحياة، بلا عون أو دعم من قِبل الاستنتاجات الجاهزة من الحبكة أو من تلميحات المؤلف “.

لا يعرف بشكل قطعي تعريف واحد يحدد جوهر مفهوم الشعر، ويرسم مضمونه وشكلانيته. وتثور حتى الآن سجالات عميقة تتعلق بمفهوم الشعر وارتباطه أساسا بالقصيدة وحدها أم أنه يتعداها ليشمل فنون الصورة والنثر والمسرح والنحت والرقص وغيرها.

 ويرى كثير من المنظرين أن الشعرية هي مفهوم أرحب من أن تكون ضمن سياق نمط أدبي أو إبداعي واحد بل هي موقف من الحياة وتعبير عنها بطرق إبداعية مختلفة. فالشعرية حالة ترتقي بالإنسان من حدود المدرك لتصل به إلى الوعي والمعرفة المبتغاة.

طرح جديد

السينما الشعرية لم تذبل أزهارها مطلقا
السينما الشعرية لم تذبل أزهارها مطلقا

يقدم كتاب الناقد عبدالكريم قادري “السينما الشعرية، أسئلة البناء والدلالة”، الذي صدر عن السلسلة المعرفية من مهرجان أفلام السعودية بالتعاون مع دار رشم للنشر والتوزيع، محاولة متقدمة في كشف معالم هذا الموضوع الجدلي والشائك. يقول المؤلف في مقدمة كتابه “من الصعب ضبط مفهوم الشعرية في سياق نقدي جازم، أو حصرها ضمن قاعدة أو قالب معين، لأنها هلامية بلا شكل، وانسيابية مثل جدول يشق منحدرا، متقلبة ومتغيرة ومتحركة حسب كل حركة أو تيار سينمائي، كل فئة تقرؤها أو تفسرها أو توظفها انطلاقا من حسها الجمالي ومنطلقها الفكري وسياقها الزمكاني”.

ويضيف “لكن الكل وإن اختلفوا في التفاصيل، فإنهم اتفقوا على جماليتها الطاغية ونقاء مشاهدها وقربها من القلب ووجدان الإنسان، لأنها تملك القدرة السحرية على التسلل إلى ذائقة المُتلقي دون أن تدق بابه وتستقر في أعماقه لتصبح جزءا من ذاكرته، بعد أن تنقش على جدران عواطفه منحوتات لا تُمحى ولا يُغيرها الزمن، لتبقى وثيقة بصرية تضبط حلما كان يراوده فتحقق له، أو أمنية بصرية أُعيد تشكيلها من جديد ليراها تتراقص أمامه”.

ويتابع متحدثا عن الشعرية “هي تلك الريشة التي يداعب بها الفنان لوحته البيضاء، وتلك الكلمات التي يسوقها الشاعر ليعبر بها عن حالة وجدانية، وتلك الأوتار التي يخلق بها الملحن ما يبهج الأسماع، وتلك التنهيدة التي يخرجها المُشاهد فور خروجه من قاعة السينما، هي الريشة والكلمات والأوتار واللحن والتنهيدة، وكل الحالات التي تخلق الجمال الخالد الذي يحرك المياه الراكدة ويرسلها عبر الجداول والمجاري لتروي العالم وتساهم في نمائه”.

عبدالكريم قادري: إنجاز فيلم شعري يحتاج إلى مسحة من الخيال وإجادة من المخرج

كذلك يقدم الكتاب خطوات بحثية في تاريخ وجود فكرة الشعرية السينمائية وطرق تطورها، يقول قادري “رغم مرور أكثر من قرن وربع على ولادة السينما، غير أن هذا الفن لا يزال حديثا إذا ما تمت مقارنته بالفنون والآداب الأخرى، لهذا لم يتم اكتشاف العديد من جوانبه وعناصر بنائه المختلفة، ولم يجد بعد مدوّنة نقدية تستخرج جمالياته الظاهرة والخفية، أو آليات تفكّك عناصره وتعيد تركيبها كما ينبغي، ليفهمها المتلقّي حتى يصل إلى لذّته القصوى التي يصبو إليها، ورغم هذه المسايرة غير المكتملة، هناك بعض الدراسات التي استطاعت أن تواكب بعض هذه الجوانب وتحللها وفقا للسياق المعرفي، لكن يبقى هذا الجهد غير كاف، نظرا إلى ما وصلت إليه السينما حاليا، وما أصبح عليه تأثير الفيلم بين الجمهور”.

ويبين الناقد أنه قد انعكس في السينما، منذ بدايتها، العديد من المدارس والتيارات الفكرية والجمالية والأيديولوجية، ما إن يخبو توجه حتى يظهر آخر على أنقاضه، لكن “السينما الشعرية” لم تذبل أزهارها مطلقا، تسللت بينها، وأخذت منها، واستفادت بمعطياتها حتى تبقى في كامل ألقها وتوهجها.

لكنه يلفت إلى أن هذا المصطلح ما زال غير مفهوم في المدونة النقدية العربية، ولقد جاء هذا الكتاب ليفصّل فيه، ويسبر أعماقه واتجاهاته، انطلاقا من أرسطو، ومرورا بالمناهج النقدية الغربية، وانتهاء بالترجمات والدراسات العربية التي اختلفت فيه، لأنه مفهوم هلامي يصعب القبض عليه، متشظ ومتداخل، تتناسل منه العديد من المفاهيم الأخرى، مثل “الشاعرية” و”البوطيقا” و”سينما الشعر” و”سينما القصيدة” وغيرها من المصطلحات التي تلتقي معه في جانب، وتختلف معه في جوانب أخرى ولقد تم التطرق إليها وتحليلها نقديا.

ركّز الكتاب، وبشكل واسع، على مصطلح “الشعرية” الذي تم توظيفه كمفهوم جمالي، والوقوف على انعكاساته في الفيلم، لهذا تم التطرق إلى موجودات “الكادر” السينمائي، وطرق ضبطه لتوليد الشعرية، وتم الاستئناس بالمنطلقات الفكرية والفلسفية التي تساهم في تأثيث حقول الرؤيا البصرية والمعنوية، إضافة إلى التطرق إلى عناصر مهمة أخرى تساعد في توليد هذه الشعرية، مثل المونتاج والإيقاع والتصوير، وهي مرتكزات تجسد الشعرية، وتجعلها قيمة جمالية وحضارية في نفس الوقت”.

ولم يغفل الكتاب التوجه نحو الجانب التطبيقي فتم البحث في العديد من التجارب السينمائية التي عكست هذا المفهوم، من بينها تجربة أندريه تاركوفسي المهمة والرائدة، وهو مخرج لم يكتف بتوظيف هذا التوجه في أفلامه فقط، بل نظّر له عن طريق الكتابة، ليصبح مع الوقت أعمق من جسّد مفهوم الشعرية، إضافة إلى تحليل بعض الأفلام المهمة باستخراج شعريتها، مثل أفلام “نوستالجيا” و”المرآة” لتاركوفسكي، و”عن الأبدية” لأندرسون، و”هلاوس” لكوروساوا، و”الختم السابع” لبريجمان، وهي نماذج سينمائية جسدت هذا المصطلح من الناحية الجمالية والمعرفية.

جدل في مفاهيم الشعرية

وثيقة بصرية تشبه الأحلام
وثيقة بصرية تشبه الأحلام

كثيرا ما يطرح مفهوم الشعرية السينمائية من خلال علم الجمال، ومفهوم جمهور النخبة وتفاعل الجمهور المتلقي للفيلم السينمائي من خلالها ومدى تأثيرها على حجم شريحة الجمهور المتابع الذي يجب أن يكون متمتعا بدرجة عالية من الحس الجمالي.

يقول عبدالكريم قادري لـ”العرب”: “أعتقد أن السينما الجيدة، أو بعبارة أدق المشهد الجيد الذي يتم إشباعه بالعناصر التي تولّد الشعرية، مثل التلاعب بالظل والنور واختيار المكان والوقت المناسبين وضبط الإطار وتركيبه مع لقطات مختلفة لتوليد معنى مغاير، وأكثر من هذا كله لمسة المخرج التي تولّد الشكل العام، وكلها منطلقات لا تحتاج إلى مرجعية قوية للمتلقي حتى يفك شيفراتها الجمالية، كل ما تحتاجه هو الخيال ومدى ارتباط مشاهد الفيلم بأحلام وكوابيس المتلقي، لأنه عندما يرى مثلا بحيرة وسط بستان ساعة الغروب، فمن المؤكد أن هذا المشهد سيعيده مثلا إلى علاقة حب قديمة، أو حبيبة مستقبلية ستجلس معه في ذلك المكان، لذا الأمر لا يحتاج سوى إلى مسحة من الخيال، ولمسة جيدة من المخرج حتى يستخرج من ذاكرته ما كان مخبوءا، طبعا هناك زوايا لا يصل إليها بسهولة، لكنه في المجمل يتعاطى معها بندية وفهم”.

الكتاب يقدم مساهمة نقدية عربية في الفكر السينمائي المتعلق بالجانب التنظيري والتطبيقي للسينما الشعرية

وعن مفهوم اللغة السينمائية وكونها منظومة دلالية محددة يمكن أن تقوم على التوازي مع ما تقوم به المنظومة اللغوية في أي لغة، من حيث القدرة على تقديم سرد فكري، يجيب قادري “طبعا هناك تشابه في المنظومة اللغوية، الشعر يتكون من عدة كلمات لتوليد المعنى، وكذلك الفيلم يتكون من مشاهد كثيرة لتوليد المعنى، من هنا يلتقيان في توليد المعنى أو حتى الصورة الشعرية انطلاقا من جودة كل صورة، سواء في السينما أو الشعر، لكن هناك مصطلح آخر، وهو سينما الشعر الذي جاء به بير باولو بازوليني، ويتمثل في السعي من أجل خلق لغة تتكون أبجديتها من الصور، مثل إشارات المرور ولغة الصم والبكم، لكن هذا مشروع يلزمه زمن ليتحقق، رغم أنه موجود في السينما بشكل ما”.

وعن حقيقة أن مفهوم الشعرية في السينما يقوم على مبدأ الفن الجماعي المختلف كليا عن مفهوم الحالة الشعرية الذاتية المتعلقة بالشاعر أو التشكيلي مثلا، وعن إمكانية وجود الشعرية في حالات إبداعية مختلفة، يقول قادري “أعتقد أنه مهما كانت جودة الفريق الذي ينجز الفيلم فلن يكون بمقدوره صناعة فيلم جيد إن لم يكن هناك مخرج يملك بصمة خاصة به ويحمل على كتفه مشروعا جماليا”.

ويتابع لـ”العرب”: “في هذه الحالة هل يمكن أن نحقق فيلما شاعريا أو شعريا بالفريق الذي عمل معه تاركوفسكي في ظل غياب الأخير، وهو نفس الأمر الذي يمكن أن نجربه على سينما بريجمان أو كوروساوا، لأنه نفس المنطق، طبعا الإجابة ستكون لا، لأن الفريق يذوب في ظل المخرج، بالتالي يصبح هذا المخرج عبارة عن فسيفساء مكتملة، أما باقي الفريق فهم الحصى التي تتكون منها، نعم لهم دور، لكنه لا يصنع البصمة الكلية”.

ويشدد على أن الشعرية أو الشاعرية هي حالة وجدانية موجودة في كل الفنون، وليست حكرا على الشعر فقط، أي التشكيل والموسيقى والرقص والرواية وغيرها من الآداب والفنون، وكل فكر يحاول أن يربطها بجانب معين ويمحو الباقي هو فكر متطرف، لأن الشعرية هي الأثر الذي تتركه الصورة أو اللوحة أو المقطوعة في الإنسان.

في كتابه الجديد، يحاول قادري أن يقدم مساهمة نقدية عربية في الفكر السينمائي المتعلق بالجانب التنظيري وكذلك التطبيقي. فبعد كتابه السابق “سينما الشعر جدلية اللغة والسيمولوجيا والسينما” وكتاب “سينما الرؤى/ قراءات ودراسات في السينما العربية”، يتابع في كتابه الأحدث تقديم المزيد من البحث والتحليل في موضوع ما زال يحتمل الكثير من العمل والتقعيد. ولقادري مساهمات عديدة في الكتابة النقدية العربية في مجال السينما ومشاركات في التحكيم والمحاضرة في العديد من المهرجانات السينمائية العربية والعالمية.

14