السيرة الذاتية روائيا

العيب ليس في كتابة السيرة الذاتية روائيا، بل في العناصر المكونة لها، وكيفية تناولها، والقيم التي تتضمنها.
الخميس 2018/11/29
أعمال تجعل من الذات مركز العالم

يعاب على بعض الروائيين اتخاذهم سيرتهم الذاتية موضوعا لرواياتهم، بدعوى أن الاتكاء على السيرة الذاتية وحدها يحصر العمل في مسائل خاصة بصاحبها، فيحفر في ذاكرته كي يستعيد تجارب عاشها قد لا تكتسي أهمية إلا لديه، كسرد المغامرات الجنسية وزنى المحارم عند بعض الفرنسيات المعاصرات، فيما الرواية فعل تخييلي بالأساس، ينهل من الواقع لا محالة، ولكنه يسمو به ليجعل من التجربة الخاصة لحظة إنسانية تلامس بمعانيها ومراميها كل قارئ في هذا العالم الرحب. وينسى أصحاب ذلك الرأي أن الرواية جنس يسع كل شيء، حتى الاعترافات والمذكرات واليوميات والمراسلات، وأن روايات كثيرة لكتّاب كبار تقوم عليها، من ديكنز، وألبير كامو، وسارتر، وسيلين، وسيمون دو بوفوار، وكارين بليكسن إلى نتالي ساروت، وجيمس جويس، وهنري ميلر، وأميلي نوتومب… بل إن منهم من أخضع كل أدبه لسيرته الذاتية.

وحسبنا أن نتوقف عند أعمال تولستوي لندرك أنها سيرة ذاتية، أقرب إلى أدب الاعتراف، إذ إن كل ما تناوله الكاتب الروسي، أو ألقاه في خطبه، أو ألّفه، لا ينفصل عمّا عاشه، فكتابته كلها، بما فيها رواياته، تنطق بتجاربه المعيشة المعقدة، ويمكن التعرف في طياتها بسهولة على الأنا التولستوية. يقول توماس مان، الذي استفاد كثيرا هو أيضا من سيرته الذاتية: “إن آثار تولستوي الأدبية ليست في الواقع سوى أجزاء من دفتر يوميات ضخم، عُني بتدوينه طيلة خمسين عاما في شكل اعترافات مفصَّلة، لا نهاية لها.” فقد عُرف عن تولستوي مواظبته على يومياته كنوع من العلاج الداخلي كي يكون كما ينبغي أن يكون، فكان يشتغل على ذاته رغبة منه في تجاوز أزماته ومآسيه، في مرحلة عسيرة شهدت حروبا طاحنة. وهو إذ يروي سردية حياته فلأنه كان يريد أن يُعلِّم الآخر كيف يُصلح ذاته، مثلما كان يبحث عن معنى الحياة في هذا الكم الهائل من البشر، إيمانا منه بأن الإنسان في المطلق كائن بداخله هو. وكان إلى ذلك يبحث عن قيم، لا في التاريخ ولا في ثقافته، ولا في العقيدة، بل في تجربة الفرد المخصوصة، إذ كان معياره للإنسان كونيا، يشمل الغرب والشرق معا.

فالعيب إذن ليس في كتابة السيرة الذاتية روائيا، بل في العناصر المكونة لها، وكيفية تناولها، والقيم التي تتضمنها. فلا يمكن أن نحكم عليها من خلال أعمال تجعل من الذات مركز العالم، أو سرّته، وأصحابها لا يملكون من التجارب ما عاشه جاك لندن وهمنغواي وهرمان ملفيل… على سبيل الذكر لا الحصر.

15