السياح يخافون السفر إلى ليبيا الغارقة في السلاح

طرابلس- قد لا يختلف اثنان أن الحرب والسياحة لا تلتقيان، ولعل متابعي المسلسلات العربية يتذكرون قصة رجل المخابرات المصري وصاحب شركة السياحة في إسرائيل، رأفت الهجان، حين تعثرت أحوال شركته مع توتر الأوضاع في الشرق الأوسط في خمسينات القرن الماضي، قال مفسرا: كيف نحضر السياح إلى بلد يتسلح حتى ذقنه!
وغير بعيد على صعيدي الزمان والمكان، تتسلح ليبيا منذ السبعينات، ولازالت تفعل، فكيف تسير أمور السياحة فيها؟
فرغم امتلاكها كل عوامل الجذب الطبيعي، الشواطئ الطويلة والمساحة الشاسعة والطبيعة المتنوعة والتاريخ القديم، إلا أن ثقافة السياحة تأخرت في ليبيا. لكن بداياتها مطلع الستينات “كانت مشجعة” وفق رأي مدير مركز المعلومات بوزارة السياحة، أسامة الخبولي. ولعل وجود جاليات أجنبية حينها ساعد في تقبل الأجانب وتوسيع آفاق الدعاية.

◄ ليبيا حققت سنة 2009 المركز السادس عالميا في الاستثمار السياحي بـ14 مليار دولار موزعة على 77 مرفقا سياحيا
يقول الخبولي “كان هناك تنام للطلب قابلته الدولة بتوفير العرض عبر الاهتمام بأناقة المدن ونظافتها وتشييد الفنادق والتركيز على الآثار والتنقيب، لكن الحال سرعان ما تدهور بتغيير النظام السياسي سنة 1969”.
الأسباب وراء ذلك تتنوع وفق رؤية الخبولي، جانب أمني ناتج عن “رِيبة نظام القذافي من الأجانب والمخاوف من تسلل من كان يصفهم بالجواسيس والعملاء والمخربين.” أما الجاليات الأجنبية فقد أجبرت على المغادرة دون عودة.
وتعددت الأسباب، وكانت النتيجة واحدة: اتجه الليبيون للوظائف العمومية، وتوقفت البلاد عن استقبال السياح، وفرضت قيودا على تأشيرات الأجانب، وعلى خروج الليبيين أيضاً. واختنقت المدن وخفت لمعانها رغم ما أنفق فيها على المباني والطرق.
يقول فتحي المرابط، أحد الليبيين، “في السبعينات والثمانينات كانت تُفرض علينا تأشيرة خروج من البلاد. أذكر حينها أنني حصلت على تأشيرة الخروج الليبية بعد جهد، وبعدما تقدمت للتأشيرة البريطانية واستلمتها؛ كانت صلاحية التأشيرة المحلية على وشك الانتهاء؛ وتوجب عليّ إعادة الإجراءات من جديد”.
يبدو أن ثلاثة عقود من الانغلاق كانت كافية ليدرك قادة البلاد ضرورة الانفتاح على العالم. وعلى وقع البدايات بعد الألفية نالت السياحة قسطا وافيا، حتى أن ليبيا “حققت سنة 2009 المركز السادس عالميا في الاستثمار السياحي بـ14 مليار دولار موزعة على 77 مرفقا سياحيا،” وفق الخبولي.
ويضيف “التحدي تمثَّل في عوامل الجذب، وقد حلَّت صحراؤنا هذا الإشكال بتنوعها الجيولوجي والبيئي، بعذرية رمالها وعلو جبالها ونقاء واحاتها. بأصالة مدنها مثل غدامس ثالث مدن العالم المأهولة قدما، ونقوش الليبيين التي تزيد عن 10 آلاف سنة وتعد أحد أقدم آثار البشر”.
ويتابع “العالم لا يعرف أننا سبقنا مصر في التحنيط، وصنعنا أول عربات تجرها الخيول، وعليه اكتشاف ذلك واقعاً وليس فقط قراءته في كتب هيرودوت”.
ووفق مركز المعلومات، فقد شكلت فترة ما بعد 2004 ذروة النشاط، بأرباح سنوية ناهزت المليار دولار، ومعدّل زيارات يفوق 150 ألف سائح، وفّروا ربع مليون وظيفة ثابتة ومؤقتة، هذا فضلا عن تنشيط الأسواق عامة.
وتبدأ رحلة السياح عادة من طرابلس ومدينتها القديمة وبعض معالمها وأسواقها وشواطئها، ثم المدن الفينيقية والإغريقية والرومانية في صبراتة ولبدة وشحَّات، وبعدها الصحراء حيث المغامرة والاستكشاف.
وعدا عن ذلك، يرى المرشد السياحي السابق، وصانع المحتوى، طه الجَوَّاشي أن أهم ما يميز ليبيا “موقعها الجغرافي القريب لأوروبا والأسواق السياحية”.
ويقول “يبدو أن التاريخ المشترك جعل الإيطاليين الأكثر رغبة في زيارة ليبيا، هذا بخلاف الفرنسيين وكل دول حوض المتوسط.” وتؤكد الشواهد أن العامل الأمني كان الأكثر جذبا للسياح.

◄ بالإضافة إلى السياحة الفندقية تتنوع النشاطات، فهناك المجموعات السياحية الشبابية والعائلية والاحتفالات والكرنفالات والسباقات
كما كان الأمن الجاذب الأول صار لاحقا أكبر المُنَفِّرين، فقد دخلت البلاد في نفق من التخبط والانقسام السياسي والتدهور الأمني والاقتصادي بعد أحداث فبراير 2011، ولم يحل عام 2014 حتى دخلت البلاد في أتون حرب أهلية أفزعت حتى السفارات ودفعتها خارجا، فما بالك بالسياح.
ولم تنته قصة السياحة هنا رغم كل التحديات، فيبدو أن الليبيين وجدوا مخرجا، ليس للترفيه عن الأجانب، بل عن أنفسهم هذه المرة، بدل السفر إلى الخارج وإنفاق المزيد. فيظهر أن تحرر رأس المال بعد 2011 دفع أصحاب الأموال للإنفاق دون خوف، لهذا، نشطت السياحة الداخلية بشكل متسارع، حتى أن “عدد القرى السياحية المسجلة بوزارة السياحة ارتفع من 18 إلى 114 خلال السنين الثلاث الأخيرة.”
وربما لم يعد الليبيون يأبهون، ولهذا تراهم يتنزهون على طول البلاد رغم الخروقات الأمنية، مثلما حدث صيف العام 2024 مع نزلاء قرية “سمر لاند” قرب طرابلس.
ويقول أحدهم، عصام العزابي، “حدثت اشتباكات مسلَّحة بجانبنا وغادر بعض النزلاء، لكن الغالبية قرروا البقاء”.
ويضيف “مع غرابة القرار، إلا أن الاشتباكات سرعان ما انتهت واستمتعنا بالبحر في أجواء رائعة تنبع من خصوصيتنا الثقافية”.
وتمنع القوانين الليبية والمزاج العام أيضا وجود المراقص وتعاطي المشروبات الكحولية وارتداء الملابس غير المحتشمة.
ويتابع “الجميع يعلم بالظروف التي مر بها الليبيون في آخر 60 سنة. فترات العزلة دفعتنا لنوع من الانطواء، لكن التغيير التدريجي ممكن، فكلما زاد السياح زاد تقبّل الناس لهم، إما بتقديم الخدمات والاستفادة المادية، وإما بتجاهلهم وإعطائهم مساحة طبيعية أثناء الزيارة”.
من جانبه، يعتبر الخبولي أن “إنفاق رجال الأعمال المحليين في الداخل أفضل دعاية ودعوة للاستثمار واكتشاف البلاد،” وفي ذات الاتجاه برزت مؤخرا وسيلة دعائية جديدة قادها هذه المرة صناع محتوى مثل الجواشي وغيره من الليبيين والأجانب.
وعن ذلك يستدرك الجواشي محذرا “صناعة المحتوى مدخل جيد شرط استخدامه بالطريقة الصحيحة والواقعية دون مبالغات لا تعكس الواقع، خاصة من النواحي الأمنية، لأن هذا قد يخلق نتائج معاكسة.”
ومن هذا المنطلق يتفق الجميع على أن السياحة الداخلية في الوقت الحالي هي المخرج والخطوة الأولية. والواقع يقول ذلك أيضا، فبالإضافة إلى السياحة الفندقية تتنوع النشاطات، فهناك المجموعات السياحية الشبابية والعائلية والاحتفالات والكرنفالات والسباقات.
وفي مؤشر مطمئن، نجحت نسخة 2024 من “رالي تي تي” بصحراء ودان في جمع 50 ألف سائح لعدة أيام داخل مخيم صحراوي مؤقت، في مهرجان قال ليبيون إنه وحده أكثر من أغلب البرامج السياسية المطروحة.

◄ أهم ما يميز ليبيا موقعها الجغرافي القريب لأوروبا والأسواق السياحية