"السلطعون الأسود".. مهمة مستحيلة لأم محاربة بين خديعة وانتقام

في أرض ما وفي زمن ما يمكن أن تتكرر ظاهرة الحروب والصراعات المدمرة بين البشر وهي في الواقع ذروة الصراعات التي تجسد ليس فقط الفكرة التقليدية في الانقسام بين الأشرار والأخيار، بل أزمة البشرية برمتها حين تجد نفسها وهي تساق إلى مواجهة مصيرها في حروب ماحقة لا تنتهي كما هو الحال في فيلم “السلطعون الأسود”.
يجسد فيلم “السلطعون الأسود” للمخرج آدم بيرج حقيقة الحروب والصراعات، وهو أحدث أفلامه والذي يعرض الآن في صالات العرض وعلى منصة نتفليكس أيضا، ويتصدر الترند لهذا الأسبوع.
المشاهد الأولى من الفيلم تضعنا في ذروة الأزمة والصراع، فها هي كارولين ايد (الممثلة نومي راباس) مع ابنتها وما يلبثان أن يواجها هجوما وحشيا من طرف مسلحين مجهولين لينتهي مصيرهما في متاهة كاملة من الحروب الطاحنة التي فيها كثير من ملامح الحرب الأهلية وحرب الميليشيات، وعلى خلفية هذه الأحداث هنالك عدو مجهول أو صراع بين دول.
كل ذلك يعمد المخرج إلى التعتيم عليه منطلقا من حقيقة الحرب والصراع كقيمة مجردة وكيف تنسحق تحتها الفئات الأكثر ضعفا، إذ تجد كارولين نفسها وحيدة من دون ابنتها وقد انخرطت في ذلك الصراع وحتى بعد تكليفها بمهمة خلف خطوط العدو يكون حلمها أن تجتمع بابنتها من جديد.
الفيلم يجسد قدرات تعبيرية مهمة ملفتة للنظر ليحمل الصورة الفيلمية برسائل بالغة الأهمية تكشف عن الزمن الرديء
تتوالى أحداث الفيلم على خلفية مغامرة خطيرة يتم اختيارها تتكون من خمسة أشخاص أو نحو ذلك، لينطلقوا على أرض جليدية يحملون معهم عبوتين مجهولتين عندما يتم تفجيرهما سوف تشل قدرة العدو، ذلك ما تم تلقين المجموعة به، ومن بينهم المرأة الوحيدة كارولين التي تكون قد وصلت إلى مستوى من الكفاءة في القتال وكذلك الشراسة في مواجهة الآخرين، بينما هي تخفي في داخلها جرحا غائرا يتعلق بفقدان ابنتها وأمل اللقاء بها والعيش معا من جديد.
على ذلك الجليد الذي لا حدود له سوف تتجسد نزعة الصراع من أجل البقاء، ويجسد الفيلم قدرات تعبيرية مهمة ملفتة للنظر ليحمل الصورة الفيلمية برسائل بالغة الأهمية تكشف عن الزمن الرديء الذي ربما هو زمن الحرب الذرية التي يقول المنظرون للحروب إنها سوف تنتهي بعصر جليدي جديد.
لن تتخلى كارولين عن هدفها وها هي تجازف بنفسها وتكاد تغرق وسط مياه متجمدة لكي تنقذ العبوتين بعد إصابة قائدة المجموعة لتكتشف حجم الخديعة وأن ما تحمله تلك الفرقة شبه الانتحارية ليس إلا عبوتين لقنبلتين جرثوميتين سوف تجهزان على النازحين والمهاجرين قبل أن تقضي على العدو.
لا شك أن ذلك الاكتشاف كان هو التحول الذي جعل كارولين تلتقي مع الملازم نولاند (الممثل جاكوب أوفتيبرو) في هدف أخير ألا وهو إبطال تلك المهمة الجنونية، لكن الأمر بالنسبة إلى كارولين سوف يتشعب أكثر مما يدفعها إلى إصابة نولاند على فرض أنه ماض في مهمة إيصال القنابل الجرثومية.
ما بين المغامرة الطويلة التي احتلت أغلب المساحة الزمنية للفيلم وبين مرحلة الوصول إلى القاعدة العسكرية هنالك تحولات حاسمة لاسيما مع مجازفات كارولين وقطع بعض أصابعها بسبب التجمد وتيبس أطرافها، ثم تتويجها بالبطولة التي ترفضها وتنازع من أجل رد الضربة التي تعرضت لها.
الملفت في هذه الدراما الفيلمية هو اختلافها عن أفلام الحرب السائدة وتركيزها لا على المعارك بل على الإنسان
لا يتوقف ذلك النسق الفيلمي الرصين والمتماسك أن يمضي بنا إلى النهايات في بناء سردي متقن إلى درجة تتويج هذا الفيلم على أنه أهم أفلام الحركة لهذا العام حتى هذا التاريخ على الأقل، لاسيما وأنه علاوة على طابع العنف والحركة فيه حس إنساني مرير وعميق لاسيما مع تأكد كارولين من القائدة الأعلى التي توجتها بالنياشين بأن لا أمل لها في لقاء ابنتها وبمعنى أنها تعرضت إلى خدعة كبيرة.
الاندفاع الشرس لكارولين ما يلبث أن يقودنا لاحقا إلى مواجهة جديدة في تلك السلسلة المتصاعدة من الخطوط السردية التي برع فريق السيناريو في نسجها بعناية شديدة وحيث المخرج هو نفسه ضمن فريق السيناريو إلى جانب الكاتبين بيل رادستورم وجيكر فريبدورغ وهو المنطلق الذي أسس لحلول إخراجية متماسكة ليتكامل ذلك مع بناء بصري متقن على صعيد الصورة السينمائية بصفة عامة فضلا عن الموسيقى والمؤثرات الصوتية.
ولعل الملفت للنظر في هذه الدراما الفيلمية هو الاختلاف الملحوظ عن أفلام الحرب السائدة والتركيز لا على المعارك والصراعات في حد ذاتها وعدم الانشغال في من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه والتركيز على الإنسان وعلى الإنسانية الممتحنة والمعذبة وهو مما رسخته كارولين ليتكامل مع شخصيات أخرى بعضها ثانوي كالأم التي تتوسل الآخرين من أجل إطعام طفلها وما تلا ذلك من مشاهد البؤس والخراب والحشود الهائمة على وجوهها.
وأما على الجهة الأخرى وبعد مغامرة انتزاع القنابل الجرثومية من المختبر فإن ذروة دور كارولين بل قل مأساتها سوف تتجسد في مشهد المواجهة الأخير وهي تحمل القنبلة الموشكة على الانفجار وهي محاطة بالجنود المدججين بالسلاح ثم وهي تفجر القنبلتين وتترك الكارثة من خلفها تضرب من خدعوها ودمروا حياتها وصولا إلى لقائها الحلمي مع ابنتها في قاع البحر لتكتمل تلك الصورة الكارثية.