السفارة الروسية في القاهرة تختلق فتنة سياسية بين مصر والغرب

لا تخفي روسيا تخوفها من أن يغير العرب موقفهم من الحرب في أوكرانيا الذي هو حاليا أقرب إلى موقفها، وأن يقتربوا أكثر من الرؤية الغربية خاصة بعد إقرار زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة ولقائه قيادات إقليمية بارزة. هذه المخاوف عبّرت عنها السفارة الروسية في مصر في بيان من أن الغرب يسعى لـ”خداع” بعض الدول “لتكوين مجموعات معادية لروسيا“.
فرضت دواعي الحرب بين روسيا وأوكرانيا وتقاطعاتها الغربية أنماطا مختلفة من التصرفات الدبلوماسية غير المعهودة والمرفوضة من جانب الكثير من العارفين بتقاليدها وبواطنها، لكن كما يقال كل شيء عند اندلاع الحرب مباح، حيث عبّر بيان أصدرته السفارة الروسية بالقاهرة، الخميس، عن مخاوف من احتمال أن تقوم مصر وبعض الدول العربية بتعديل موقفها من الأزمة الأوكرانية لصالح الدول الغربية.
لجأ البيان المفاجئ إلى التاريخ للإيحاء بأن مواقف موسكو أكثر عدلا وإنصافا من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا تجاه مصر والدول العربية، خاصة عند تلميحه إلى العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر والسيطرة على قناة السويس، وما قامت به واشنطن في العراق وسوريا وليبيا.
كشفت المفردات التي استخدمتها السفارة الروسية عن قلق من عدم استبعاد حدوث تحول عربي، حيث جاء بعد يوم واحد من الإعلان عن عقد قمة بين الرئيس الأميركي جو بايدن في الرياض تضم قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق، والتي تشير إلى أن تغييرا مّا يمكن أن يطرأ على مواقف هذه الدول من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وإن لم يكن مؤيدا لموسكو فهو يتخذ مسافة من الدول الغربية ولا ينسجم مع مواقفها للانتقام العسكري والاقتصادي من روسيا.
المفردات التي استخدمتها السفارة الروسية كشفت عن قلق من عدم استبعاد حدوث تحول عربي، حيال الصراع في أوكرانيا
أشار الإعلان عن قمة الرياض إلى أن المعادلة التي خفضت بموجبها موسكو خسائرها وقامت على تحييد دول عربية مهمة وربما جذبها إليها في المستقبل قابلة للتغيير الآن، فموافقة قادة تسع دول عربية مهمة على الاجتماع مع بايدن في هذا التوقيت يعني أن هناك تفاهمات يمكن التوصل إليها تصبّ في صالح واشنطن على حساب موسكو.
أرادت السفارة الروسية التذكير بالماضي القاتم والمرير بين الغرب والعديد من الدول العربية، واختارت من التاريخ ما يعزز رؤيتها السياسية الراهنة، لكن عملية الانتقاء لم تكن موفقة تماما، ففي النموذج الذي استخدمته وأشارت فيه إلى العدوان الثلاثي على مصر تجاهلت أن الولايات المتحدة نفسها هي التي أوقفت هذا العدوان بعد أن أصدرت تهديدها الشهير للدول الثلاث.
ولذلك لن يؤدي التفتيش في التاريخ إلى تغيير حاسم في المواقف الحالية، لأن كل الأطراف الباحثة عن الهيمنة، بما فيها روسيا، لا تقدم خدمات مجانية ولا تتبنّى تصورات أو تقوم بإجراءات تضحية منها وفداء لشعوب دول أخرى.
ما أرادته موسكو من خلال اللجوء إلى الماضي يعبر عن شكوك في الاحتفاظ بما حققته مع بدايات الأزمة الأوكرانية من مكاسب جزئية، وأن الدول الغربية قد تقوم باستدارة واسعة لضبط الدفة لصالحها وقطع الطريق على خلق عالم جديد يمكن أن تصبح فيه موسكو رابحة من هذه الحرب، وهو ما فرض عليها التلويح بورقة التاريخ وأن الجري وراء الغرب سيكرر مآسي وقعت سابقا.
عزف البيان على سردية المظلومية لأجل استنفار قادة الدول العربية، وعزف على فكرة الاستعانة بمواقف الاتحاد السوفياتي للرغبة في استرداد قوته الغابرة على الساحة الدولية وضبط الخلل الذي أحدثته الهيمنة الغربية، والتي أرخت بظلال سلبية على مصر وغيرها من الدول العربية وفرضت الرضوخ دوما لتقديرات واشنطن.
ربط متابعون بين صدور البيان الروسي من القاهرة وبين كلمة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أمام منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي، الجمعة، وأكد فيها أن بلاده “تعتز بعلاقات الصداقة التاريخية الوطيدة مع روسيا الاتحادية” كدلالة على أن مشاركته في قمة الرياض لا تعني موقفا سلبيا من موسكو أو اقتناعا بالرواية الأميركية.

يصعب اختلاق فتنة بين القاهرة وواشنطن عبر بيان أصدرته السفارة الروسية في إحدى عواصم العالم، وهي مسألة من المؤكد أنها حصلت على مباركة الكرملين لأن الهدف لا ينحصر في القاهرة وحدها، حيث يرمي إلى توصيل رسالة أبعد من ذلك.
فمصر تسلط عليها الأضواء حاليا في ظل معاناتها من التداعيات في مجال الأمن الغذائي بسبب الأزمة الأوكرانية وتصاعد ملامح اقترابها من الغرب كانت أولى بالتنبيه وربما التحذير من مغبّة ما يمكن أن تخسره جراء تغيير موقفها.
فرضت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر حسابات جديدة على قيادتها السياسية تجعلها تحاول توظيف التدخل الروسي في أوكرانيا لصالحها، حيث تبدي تجاوبا مع التحركات الأميركية على الساحة الإقليمية لكنها لم تُقدم حتى الآن على خطوات تثبت أنها مستعدة لتغيير موقفها من الأزمة إلى حين استكشاف ما تثمر عنه قمة الرياض.
ترتاح القاهرة إلى صيغة التوازن في موقفها بين واشنطن وموسكو، وتدفع بقوة نحو الحفاظ على هذه المعادلة التي تضمن لها تحقيق أعلى استفادة ممكنة وتجنب أقصى خسائر متوقعة، وفي الوقت الذي بدا فيه الرئيس السيسي موافقا على الاجتماع مع بايدن في قمة الرياض لأول مرة استغل خطابه أمام منتدى سان بطرسبرغ ليؤكد على البعد التاريخي العميق والمصالح المشتركة المتباينة مع موسكو.
التفتيش في التاريخ لن يؤدي إلى تغيير حاسم في المواقف، لأن كل الأطراف، بما فيها روسيا، لا تقدم خدمات مجانية
كل ما حواه بيان السفارة الروسية في القاهرة من عبارات مباشرة وتلميحات لإحداث فتنة عربية – غربية لن يغير من الأمر شيئا، فالدول تضع سياساتها وفق عملية دقيقة للمكاسب والخسائر وليس العواطف والمشاعر الطيبة والسيئة التي تكنها موسكو للعالم أو رغبتها في عودة الأمن والاستقرار لدوله، فكما أن للغرب انتهاكات في المنطقة العربية لروسيا أيضا تجاوزات في سوريا واليمن وليبيا من وجهة نظر المعارضة.
لا تصلح المقارنات بين من قام بماذا، وأيهما أشد ضراوة، لتقييم الأهمية التي تمثلها كل دولة للأخرى، فطريقة مع وضد تتلاشى من التفاعلات الدولية الجديدة، إذ يمكن الاتفاق والاختلاف في الأزمة الواحدة، لأن الرؤى الحدية فقدت بريقها.
ولعل روسيا التي تحرض مصر والدول العربية على الغرب هي نفسها التي تتفاهم معه كثيرا بشأن الأزمة السورية وتبحث عن قواسم مشتركة للتعامل مع الأزمة الإيرانية.
إذا كانت موسكو تريد التنبيه إلى الخداع الغربي المستمر، فهي ذاتها التي تعلن مناصرتها للقضية الفلسطينية ولم تكن منصفة لها وتدين التجاوزات المرتكبة وتدفع بقوة نحو حل عادل لقضية محورية، بل كان الاتحاد السوفياتي أول دولة تعترف بإسرائيل ولا تزال موسكو تكتفي بخطاب يدغدغ المشاعر من دون أن يفضي إلى شيء.
تفتقر الفتنة التي تريد روسيا إحداثها بين مصر والغرب إلى أبسط أدبياتها، وهي الكشف عن حقائق جديدة تثبت بها موسكو أنها أكثر عدلا وإنصافا من الولايات المتحدة، لأن العودة إلى التاريخ لا تحتاج إلى دروس وعظات، فالكل يعلم ما قام به الغرب إبّان الحقبة الاستعمارية وما بعدها، والكل يعرف طبيعة التدخلات الأميركية في المنطقة العربية، ويبقى السؤال ماذا قدمت موسكو لمواجهة ذلك؟
لا تحتاج الإجابة إلى تفاصيل، فالعلاقات بين الدول لا تقف عند الماضي وإلاّ ما تطورت روابط موسكو مع القاهرة عقب طرد الخبراء الروس بعد حرب أكتوبر 1973، وما هدأت العاصفة التي ثارت بين روسيا وإسرائيل بسبب تدخلات الأخيرة في الحرب الأوكرانية، هكذا تظل الفتن نائمة واللعنة قد تنصبّ على من يوقظها.