السعادة المطلقة غير ممكنة لكن نستطيع التفاؤل بحذر

ذاع صيت التنمية البشرية في العالم العربي من خلال التحفيزات الإيجابية لخبير التنمية الراحل إبراهيم الفقي، الذي يعد أول من سلط الضوء على هذا العلم في المنطقة بهدف تحفيز الشباب العربي على تطوير قدراته وعدم الاستسلام لصعوبات الحياة. ورغم أن الفقي دعا إلى المثابرة دون الاكتفاء بالتمني والخيال لبلوغ الأهداف، إلا أن بروز كتب المساعدة الذاتية مؤخرا يدحض فكرة السعادة الوهمية التي روج لها الكثيرون من صناع التنمية البشرية كالقول إن كل الأحلام المستحيلة بوسعها أن تتحقق بمجرد التفكير فيها، حيث يلفت هذا النوع الجديد من الكتب إلى أن أولى خطوات مواجهة الضغوط هي تقبل الواقع كما هو والاستمتاع بالحاضر حتى لا يفقدنا التفكير في المستقبل قيمة اللحظة الحالية
القاهرة – “ليكن المظهر كالجوهر، وليكن الظاهر كالباطن.. كل ما يحدث في حياتك أنت من قمت بجذبه إلى حياتك، لكن عندما تبدأ في فهم أفكارك ومشاعرك والسيطرة عليها حينئذ سترى كيف تصنع واقعك الخاص وهناك تكمن حريتك”، تلك كلمات قصيرة وبراقة يجذبك إليها كتاب “السر”، أحد أشهر كتب التنمية البشرية على الإطلاق، التي قد تحول مسار حياة القارئ ونمط تفكيره من خلال تحفيزه على الانتباه إلى نظريات نفسية إنسانية لم تكن محل تفكير لدى الكثيرين، لكن قد تنجح في إنقاذه من حالة الشعور بالإحباط وتمنحه أملا جديدا حين تحمل سطوره سر تحقيق الأحلام المستحيلة.
كتاب “السر” للكاتبة الأسترالية روندا بايرن، وغيره من عشرات الكتب التي تصدرت في العقود الماضية قائمة المبيعات، يسلط الضوء على مساهمة هذا النوع من العلم والأدب في تغيير نمط حياة الناس وطريقة نظرتهم للأمور خاصة في طريقة تجاوز الضغوط والصعوبات اليومية، وقدرة هذا العلم على تطوير الذات.
وتلاقي كتب التنمية البشرية إقبال فئات عمرية خاصة الشباب كما تلفت انتباه المشاهير، وقد أثار نجم كرة القدم المصري محمد صلاح مؤخرا جدلًا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي لدى ظهوره في صورة وهو يقرأ كتاب “فن اللامبالاة” للكاتب مارك مانسون، وهو رائد أعمال انتقد في كتابه الصادر عام 2016 ما وصفه بثقافة التفكير الإيجابي، التي روج لها البعض على أنها مفتاح السعادة والثراء، ودعا إلى التحلي بالواقعية وعدم العيش في مثالية زائدة.
وبغض النظر عن الرسالة التي أراد صلاح إرسالها من خلال ظهوره مع هذا الكتاب، إلا أن ثمة رسالة أخرى يمكن استنباطها من الصورة ذاتها.
لم يكن صلاح، لاعب نادي ليفربول الإنكليزي، سوى واحد من الملايين الذين أُعجبوا بكتاب مارك مانسون. هؤلاء الملايين هم أيضًا جزء من ملايين أخرى من القراء حول العالم بدأت توجهاتهم الفكرية تتغير مع صعود نجم نوع جديد من كتب المساعدة الذاتية في مقابل تراجع تدريجي لكتب عرفت تجاريا باسم “كتب التنمية البشرية”.
واعتبر متابعون أن كتاب “فن اللامبالاة” لا يشبه أي كتب مساعدة ذاتية أخرى موجودة فهو ينقض فكرة السعادة المطلقة، ويرى أن ثقافتنا اليوم تركز على التوقعات الإيجابية غير الواقعية، وهو أمر غير سليم.
وتمحورت أفكار كتب التنمية البشرية حول الدعوة إلى التفاؤل وتخيل مستقبل أفضل والتزام التفكير الإيجابي، والتأكيد على أن الطريق الأسهل والأسرع نحو النجاح يكون بتخيل ما يريد الإنسان تحقيقه في المستقبل والإيمان بأنه حدث بالفعل، وأن الحصول عليه ما هو إلا مسألة وقت.
تبدو الفكرة جذابة وملهمة، لكن ما يعيبها أنها تجعل الإنسان يلهث دائمًا وراء أهداف مادية دون التفكير في الرحلة التي عليه أن يقطعها لبلوغ أهدافه، فضلا عن الاتهامات الموجهة لكتاب هذه النوعية من الكتب وبعض مدربي التنمية البشرية، بأنهم يتربحون من خلال بيع الوهم للناس. كما وقع التشكيك في النصائح التي يقدمونها في كتبهم لتحقيق الثروة الحقيقية، لافتين إلى أنه لو كانت فعلا ناجعة لكان هؤلاء أنفسهم أغنى أغنياء العالم ولما احتاجوا إلى إرهاق أنفسهم في تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات.
ومن أشهر كتب التنمية البشرية كتاب “السر”، الذي حقق نجاحًا كبيرا، حيث تجاوزت مبيعاته الـ 19 مليون نسخة، وتمت ترجمته إلى 44 لغة، تقوم فكرة الكتاب على ما يعرف بقانون الجذب، الذي ترى الكاتبة أنه أحد قوانين الطبيعة، وتبين أن الإنسان يجذب إلى حياته الأشخاص والظروف والثروة وفقًا لأفكاره، فإن ضبط تردد أفكاره بحيث تكون إيجابية طوال الوقت فهو على الطريق الصحيح لتحقيق الشهرة والثروة والصحة والعلاقات الناجحة.
وفي العالم العربي شكل الراحل إبراهيم الفقي، خبير التنمية البشرية المصري، حلقة الوصل بين كتب التنمية البشرية بمعناها التقليدي المهتم فقط بالتفكير الإيجابي، وكتب المساعدة الذاتية وتسليطها الضوء على ضرورة الجد والاجتهاد في كل لحظة.
وشمل منهجه قواعد علم البرمجة اللغوية العصبية وهو أحد مؤسسيه، وإن أقر مبدأ التفكير الإيجابي والتفاؤل، لكن يقرنه بأهمية الصبر والمثابرة. وكانت إحدى مقولاته “عش كل لحظة كأنها آخر لحظة، عش بالكفاح، عش بالصبر، عش بالحب، وقدّر قيمة الحياة”.
لكن بدأت الأضواء تخفت عن كتب التنمية البشرية مع تزايد الحديث حول توجهات فكرية جديدة، تلفت إلى أن السعادة الحقيقية تكمن في الرحلة الشاقة لبلوغ الهدف وليس في متعة الوصول إليه، وأنه لا معنى في أن يقضي الإنسان حياته في تخيل هدف مادي ربما بعد الحصول عليه قد ينتابه الندم لأنه لم يستمتع بكل ما كان حوله في الحياة لأجل نيل ذلك الهدف.
إنسان إيجابي
قدم مارك مانسون في كتابه “فن اللامبالاة” أبرز الأمثلة التي صنعت بطل الشباك الثقافي الجديد، وهي كتب المساعدة الذاتية التي أعلت من قيمة أهمية عيش اللحظة الحالية بكل تفاصيلها، سواء كانت مرضية من وجهة نظر الإنسان أو مؤلمة، فيما تحذر من خطورة أن ينشغل الإنسان بمستقبله عن حاضره.
دافع مانسون عن فكرة أن الحياة لن تستقيم، إذا ظل الإنسان في سعي دائم لجعل كل الأمور مثالية والالتهاء المبالغ فيه بكل التفاصيل، لأن ذلك سينتهي بنا إلى حالة الهم المستمر، ورأى أن الحل يكمن في تجاهل تفاهات الحياة واختيار الاهتمام فقط بما هو بين أيدينا في هذه اللحظة وإعادة النظر في ترتيب أولوياتنا والتحلي بالواقعية فالحياة لا يمكن أن تكون بلا مشاكل بل يمكن أن تكون بمشاكل “جيدة” إن أحسنّا نظرتنا إليها.
ويبدو أن الاختيار الأهم في الحياة ليس أن تعيش سعيدًا في المطلق وتحصل على منزل أو سيارة أو شريك مثالي، بل الاختيار الأفضل والأنسب هو أن تواجه الصعاب بنضال ومثابرة.
لا ننكر أن الجميع يريد حياة سهلة سلسة، لكن بما أن الحياة لن تخلو من الألم فالأنسب تقبل مشاكلك الخاصة كأن تختار نوع الضغط النفسي المصاحب مثلا لوظيفة أحلامك وتؤهل نفسك لتحمله. لذلك ينصح مانسون كل فرد بأن يعيد ترتيب القيم والأولويات في حياته انطلاقا من واقعه أولا ويتجنب الأوهام، وهو ما يمنح الإنسان فرصة لتحديد الأشياء التي تستحق أن يقضي فيها أوقاته ومنحها اهتماما دون غيرها.
وقد ابتعد مانسون في كتابه عن المبالغة في التفاؤل الذي تصدّره كتب التنمية البشرية، ويرى أنها عبارات تمنح سعادة مؤقتة، ويوضح أن سر القوة الحقيقية الدافعة لتحقيق أي إنجاز وتجاوز أي عقبات هو تقبل الإنسان لعجزه وفشله وما لديه من جوانب القصور الذاتي والاعتراف بها، بل وتقبل أكثر الحقائق مرارة وهي الموت.
وحاول مانسون دحض فكرة تخفيف آلام الناس ومعاناتهم من خلال منحهم أملا زائفا، وقال صراحة إن هذا الكتاب “ليس مرشدًا نحو العظمة، لأن العظمة في حد ذاتها وهم صنعته العقول”، وأن مكمن السعادة في إدراك جمال وبساطة الحياة”.
ويعتبر كتاب “قوة الآن” أيضًا أحد الكتب الرائدة التي أسهمت بشكل كبير في تحريك وعي القراء باتجاه نوعية كتب المساعدة الذاتية، وفيه يؤكد الكاتب إيكارت تول أن معظم مشاكل الإنسان في الحياة تكمن في الانشغال بهموم المستقبل والندم على أفعال الماضي، في حين أنه يغفل عن عيش اللحظة الحالية والاستمتاع بكل تفاصيلها ويحرم بذلك من الشعور بالسلام الداخلي.
ويشرح تول كيفية تطبيق فكرة التركيز على اللحظة الحالية وقدرتها على إحداث تغييرات شاملة في حياة الإنسان، سواء على مستوى الراحة النفسية بالتخلص من المزاج السيء والتفكير الزائد الذي يشعر الإنسان بالهم الدائم، أو على مستوى الحفاظ على الصحة ومنع علامات تقدم العمر، أو على مستوى العثور على شريك الحياة المناسب، وغير ذلك من أوجه السعادة الحقيقية.
ومن الكتب التي صعدت في قوائم الأكثر مبيعا في وقت قصير كتاب “قاعدة الخمس ثوان” وتشرح فيه المؤلفة ميل روبنس حيلة اكتشفتها صدفةً يمكن من خلالها أن يتغلب الإنسان على كسله وخوفه من اتخاذ القرارات والقيام بالواجبات، وتتلخص فكرتها في أنه في اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بالرغبة في القيام بشيء ما يبدأ العد التنازلي “5 4- 3- 2- 1- ثم يبدأ في الحركة على الفور”.
بحثت روبنس بطريقة علمية عن حقيقة تأثير هذه الحيلة، ووجدت أن ما يحدث عند العد التنازلي من 5 إلى 1 هو أننا نعطل خدعة ينفذها العقل عند القيام بالمهام المختلفة أو اتخاذ القرارات الصعبة، وهي أنه يقوم بتجميع المخاوف من الخطوة التي يقبل عليها الإنسان ويهتدي إليها وعيه وتبقي عقل الإنسان في مساحة راحة وأمان.
وفي حال تأجيل اتخاذ خطوة بعد التفكير في ما نرغب فيه يشرع العقل في تهويل حجم المخاوف واحتمالات الفشل من وراء قرارك أو خطوتك المرتقبة، لكن عند العد 1 2- 3- 4- 5- نحرم العقل من مساحة المناورة والمماطلة التي عادة يضع فيها الحسابات المنطقية وتنتهي في أغلب الأحيان بأن يفضّل الإنسان المكوث في مكانه دون المضي قدمًا في حياته.
ورغم الهالة التي تتمتع بها كتب التنمية البشرية وما يشابهها، إلا أنها تبقى محل شك كبير حول ما إذا كانت حقا قائمة على علم صحيح ونظريات بشرية ونفسية منطقية، وإن كانت كذلك، فهل حقا قادرة على تغيير الواقع وحياة البشر؟
تجارة زائفة
يعتقد كُتّاب الأدب والفن والسياسة وكل المؤلفين الذين لا يكتبون في مجال التنمية البشرية أن كتب التنمية البشرية خدعة كبيرة الهدف منها صناعة الوهم بهدف التجارة وكسب الملايين دون الاكتراث بالقارئ الذي يتوقع من كاتبه الصدق والأمانة.
ومن جهة ثانية لا نستطيع إنكار دور كتب التنمية البشرية في اكتشاف كتب المساعدة الذاتية التي تعد أحد أبرز مراحل تطور وعي القراء والمؤلفين في الوصول إلى هذا النوع من الكتب. ولا شك أن كل من اطلع على سطور هذه الكتب انتابه شعور بأنه أكثر حرية وخففت عنه أعباء الانشغال بأمور اتضحت له تفاهتها، على الرغم من أنها كانت تستحوذ على معظم اهتمامه ووقته وتفكيره ومجهوده.
وبمجرد الانتهاء من قراءتها سيسعى إلى تغيير نظرته إلى الحياة. ورغم الإيجابية ذات المنحى الواقعي التي سيستفيد منها قارئ هذا النوع من الكتب إلا أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار تحذيرات المختلفين فيها، التي تنبه إلى ضرورة عدم الانزلاق خلف الكلمات البراقة والجذابة دون تحكيم العقل.