"السطمبالي" يطرب خلال أيام قرطاج الموسيقية

السطمبالي صوت أمل صدحت به حناجر المهمشين وآلاتهم الفريدة في عروض تحمل بعدا ثقافيا وروحانيا.
الخميس 2025/01/23
فن وجذور

أضاف فن "السطمبالي" لمسة خاصة وفريدة إلى أجواء الاحتفال من خلال أمسية في أيام قرطاج الموسيقية بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس، وخلق جوا من الفرح والتواصل بين مختلف الأجيال والحضور المتنوعين.

تونس – السطمبالي أو موسيقى “الزنوج” كما يحلو للبعض تلقيبه، هو تعبيرة فنية تحمل في طياتها تاريخا اجتماعيا وسياسيا محملا بآلام “العبيد” التونسيين والأفارقة، فهو فن متعدد الجنسيات والأسماء فكما يطلق عليه التونسيون اسم “السطمبالي” يسمى في الجزائر “الديوان” وفي ليبيا “المكاري” وفي المغرب “القناوة” وجميع هذه الأسماء تعبّر عن نمط موسيقي قائم على جملة من المتناقضات، فهو يعبّر عن غضب ومعاناة “الزنوج” من العبودية وهو أيضا صوت أمل صدحت به حناجر هؤلاء المهمشين وآلاتهم الموسيقية الفريدة من نوعها وعروضهم الفلكلورية التي تحمل بعدا ثقافيا وروحانيا في الآن ذاته.

وسط حشود من الجماهير التي تجمعت في أمسية بشارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة تونس لاكتشاف العرض الفني الأخير ضمن قسم عروض الشارع المبرمجة في أيام قرطاج الموسيقية في دورتها العاشرة، علا صوت بلحسن ميهوب وفرقته الفنية المختصة في السطمبالي مرفقة بقرقعات “الشقاشق” وإيقاعات “القمبري”، لتسرد بطريقة فنية جزءا من التاريخ المنسي للمهمشين، تاريخ أناس ارتأوا توثيق معاناتهم بترانيم وطقوس قد تبدو للبعض غير مفهومة وقد تبدو عنيفة أيضا ولكن دون شك فإنها تحرك في الجماهير شيئا ما، شيئا يحث الأجساد على الحراك والتفاعل مع الموسيقى دون تفكير في منطقية الحركة ولا الخضوع لكوريغرافيا معينة.

على كلمات أغاني “حمودة” و”والله السلام عليكم” و”بابا بحري” و”سعدية” وغيرها من الأغاني المحفورة في ذاكرة أغلب التونسيين، رقص الجمهور الحاضر ليبث الحياة في شارع لطالما كان ملاذا للتونسيين للتعبير عن غضبهم وسخطهم وسعادتهم أيضا.

حح

ويحمل “السطمبالي” في طياته أشكالا مختلفة من الفنون بين موسيقى وغناء ورقص وعرض فلكلوري. ويقوم هذا الفن تاريخيا على آلتين أساسيتين وهما “الشقاشق” و”القمبري” ومع تطور الحراك الفني وانفتاح الفنون على بعضها البعض استلهمت الفرق المؤدية للسطمبالي من الأشكال الفنية الأخرى فأصبحت تعتمد آلات موسيقية أخرى على غرار الطبول والقيثارة.

لطالما كان هذا الفن الشعبي حاضرا في أذهان التونسيين من خلال الشخصيات الخرافية التي تربت الأجيال على قصصها “المخيفة” وتحديدا شخصيتي “بوسعدية” و”زامبالا” وهما شخصيتان أساسيتان ضمن عرض السطمبالي، إذ تقدمان وصلات فرجوية تقوم على “الغرابة” والإبهار.

وقدم “بوسعدية” بشخصيته الغامضة ولباسه وقناعه المميزين عرضا راقصا على أنغام أغنية تحمل اسمه لترسم ملامح شخصية ارتبطت في ذهن التونسي منذ التنشئة بالرهبة والقوة وأحيانا بالخوف، حتى إن بعض الأمهات يقمن بإخافة أطفالهن للتوجه إلى النوم بالتهديد “نجيبلك بوسعدية”، فهو كائن لا يعرف الطفل ملامحه ولكن يخشاه، أما شخصية “زامبالا” فيمكن القول بأن عرضها يعبّر عن عمق معاناة “الزنوج” خلال الحقبة التي خرج فيها هذا الفن، إذ إن العرض يقوم على تعذيب هذا الشخص لجسده من خلال فعل الحرق وغيره مع تصوير هذا التعذيب بطريقة فنية تثير التساؤلات في نفوس المتفرجين حول القدرة الخارقة لهذا الإنسان الذي يستطيع أن يتحمل كل هذا العنف حتى إنه يلتهم النار والزجاج المكسور وغيرهما.

خخ

وتاريخيا ارتبط “السطمبالي” بـ”الزوي”، مقامات الأولياء الصالحين، فتواصل تواجد هذا الفن تاريخيا في تونس من خلال هذه الفضاءات ذات الطابع الروحاني. وعلى الرغم مما يحمله السطمبالي من ثراء تاريخي وثقافي إلا أنه بقي فنا مهمشا يقدم عروضه في الشوارع وفي إطارات ضيقة ويتم تعليمه عن طريق التوريث الذي عادة ما يرتبط بأبناء “الزوي” مع ما يرافق هذه الفضاءات من معتقدات وطقوس ضاربة في القدم.

جدير بالذكر أن تاريخ الشعوب وثقافاتها حافل بالأشكال الفنية التي ولدت من رحم المعاناة تعبيرا عن رفض الفئات الاجتماعية المهمشة للاستعباد والاستغلال، فمختلف الفئات التي تعرضت للتهميش خلقت لنفسها فضاءات تعبير فنية مستمدة من معاناتها، فكما عرفت تونس “السطمبالي” عرفت أيضا النمط الفني لـ”طوائف غبنتن” بالجنوب التونسي والتي تعبّر أيضا عن العبودية والتحرر منها، وقد تم تسجيلها ضمن عناصر التراث غير المادي التونسي باليونسكو تحت عنوان “فنون العرض لدى طوائف غبنتن”.

غغ

18