الريف التونسي يفرغ من شبابه المهاجر إلى المدن الكبرى

تلعب البطالة دورا هاما في انتشار ظاهرة نزوح الشباب من الريف إلى المدينة في تونس، إلى جانب فشل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة في إيجاد حلول للمناطق المهمشة وتركيزها على تنمية الشريط الساحلي على حساب الجنوب والشمال الغربي.
تونس - أصبحت مغادرة المدينة الصغيرة المهمشة في الجنوب التونسي هاجس عادل محمدي، الذي انعدمت أمامه أفق الحصول على فرصة عمل في منطقته، وتوجه إلى العاصمة محملا بالأمل دون شهادة جامعية أو تأهيل مهني.
يدرك محمدي، 25 عاما، أن المهن المتاحة له في العاصمة تونس بسيطة مثل العمل في المقاهي أو ورشات البناء ولا توفر أجرا كبيرا، إلا أنها أفضل من انتظار المجهول، والبقاء عاطلا عن العمل في مدينته، وهو ليس الأول ولن يكون الأخير الذي يُقدم على هذه الخطوة.
ويعدّ البحث عن لقمة العيش الدافع الرئيسي وراء نزوح الآلاف من الشباب من الأرياف التونسية إلى العاصمة ومدن الساحل بشكل عام. وتفاقمت الظاهرة لعدة أسباب أخرى منها غياب أهم الخدمات الصحية وضعف منظومة التعليم وتردي البنية التحتية والتهميش في الأرياف.
ويؤكد العديد من الشباب بأن الثورة لم تنجح في إيجاد حلول لهذه الظاهرة بل على العكس تفاقمت، بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم والغلاء مقابل المنح الصغيرة التي تقدمها الدولة للعائلات المعوزة، ما أدى إلى المزيد من التهميش للأرياف والمناطق النائية، ولم يتم تحديد سياسة حكومية هادفة للاستجابة لمتطلبات الأرياف، سواء كان ذلك على مستوى دفع اللامركزية أو تطوير البنية الأساسية أو التشغيل.
وتشير الإحصاءات إلى أن مليون نازح أغلبهم من الشباب، هجروا مناطقهم إلى العاصمة ومدن الساحل التونسي خلال السبع سنوات الأخيرة. وتأتي العاصمة كأكبر حاضرة مستقبلة للشباب الباحث عن موارد الرزق. خصوصا لتوفر خدمات أفضل في النقل والتعليم والصحة مقارنة بحياة الريف الصعبة.
ويذكر المعهد الوطني للإحصاء أنّ نسب البطالة حسب المحافظات في عام 2017، ترتفع بشكل خاص في المناطق الداخلية، وقد اِحتلت محافظة تطاوين المرتبة الأولى من حيث ارتفاع البطالة بـ32.4 بالمئة، تليها قفصة بـ27.3 بالمئة، ثم قابس بـ25.8 بالمئة. أما المنستير الساحلية، فقد اِحتلت المرتبة الأخيرة في نسب البطالة بـ6.1 بالمئة.
كما كشف التقرير الأخير الذي أصدره المعهد الوطني للإحصاء عام 2014، أنّ أكثر من 70 بالمئة من سكان تونس يعيشون على طول الساحل الشمالي والشرقي للبلاد. فيما بيّن التقرير أنّ المناطق الجاذبة لموجات الهجرة الداخليّة هي تونس الكبرى، إلى جانب الوسط والجنوب الشرقي اللذين استقطبا 119.6 ألفا من إجمالي عدد الوافدين على الأقاليم الساحليّة والبالغ عددهم 360.8 ألف وافد وغالبيتهم من الشباب.
وقد أكدت دراسة المعهد أنّ البحث عن العمل والدراسة والزواج من أهم أسباب الهجرة الداخلية. وقد تصدر البحث عن العمل قائمة دوافع الهجرة الداخلية بنسبة 20.7 بالمئة. كما ذكرت دراسة حول التفاوت بين المناطق، من إعداد الباحث في علم الاجتماع المتخصص في الديموغرافيا حسان القصار بالتعاون مع البنك الدولي أنّ العمل يحتلّ صدارة أسباب الهجرة الداخلية في تونس، بنسبة 64 بالمئة.
فارق معدل الفقر
تبرز فوراق كبيرة بين المدن والمحافظات التونسية بحسب مؤشّرات البطالة والفقر وحصّة المناطق من سوق التشغيل إضافة إلى توزيع المؤسّسات الاقتصاديّة والاستثمارات العامة والخاصّة. حيث يتسّع الفارق في معدّل الفقر بين إقليم الشمال الشرقي الأكثر جذبا للوافدين وإقليم الوسط الغربي ليناهز 22 بالمئة عام 2012. كما يبلغ الفارق في معدّل البطالة بين إقليم الجنوب الغربي وإقليم الشمال الشرقي ما يفوق 15 بالمئة الأمر الذي يغري الشباب بالمغادرة.
وتتمثل المشكلة الأساسية لمواجهة الفقر، في غياب الخطط الإنمائية المتكاملة لتقديم حلول في مجالات البنية الأساسية وتوفير الحوافز لتشجيع المبادرة الخاصة وإنشاء المشاريع بالمناطق المحرومة التي من شأنها إيجاد فرص عمل للشباب.
ويحتكر إقليم الشمال الشرقي وتونس الكبرى ما يقارب 25 بالمئة من مواطن الشغل، في حين لم تتعد هذه النسبة الثلث في الأقاليم الغربيّة.
ويقضي غالبية شباب الأرياف والمناطق الداخلية وقتهم في المقاهي نظرا لانتشار البطالة وغياب التنمية والعزوف عن العمل الفلاحي إلى جانب غياب وسائل التثقيف والترفيه. وهو ما يفسر ضجر الكثير منهم ونزوحهم إلى المناطق الساحلية والمدن الكبرى والعاصمة بحثا عن العمل وكذلك عن خدمات صحية وترفيه أفضل.
ويؤكد الباحثون في مجال علم الاجتماع أن البطالة تلعب دورا هاما في انتشار ظاهرة النزوح من الريف إلى المدينة نتيجة لعدم توازن التنمية الاقتصادية والاجتماعية بين المناطق.
وتفيد معظم الدراسات أن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الهجرة الداخلية تتمثل إجمالا في البحث عن فرص العمل ومواصلة الدراسة والتقارب العائلي غير أن تحديد هذه الأسباب كان دائما خاضعا لنماذج إحصائية تعتمد على دراسة العينات والاقتصار على دراسة الجانب الاقتصادي كدافع رئيسي للتحرك السكاني داخل البلاد، لكن مع تطور الأبحاث والمناهج التحليلية فقد بدأت تتشكل ملامح متغيرات أكثر دقة أهمها السعي للقرب من مراكز القرار والبحث عن تجاوز عقبات ضعف الإدارة في تونس منذ عدة عقود.
كما أن المجتمع تغير بعد الثورة مما نتج عنه زيادة في معدلات التنقل والنزوح من الأرياف إلى المدن الساحلية والعاصمة بالإضافة إلى زيادة في مؤشرات الفوارق الاجتماعية في المناطق المختلفة. وسارت الحكومات المتعاقبة على خطى بعضها بالتركيز على تنمية الشريط الساحلي وهمشت الجنوب والشمال الغربي لذلك يحاول الشباب في هذه المناطق البحث عن عمل وتحسين ظروف العيش من خلال تنقلهم إلى المدن الكبرى التي تتوفر فيها فرص عمل أفضل حسب اعتقادهم من الأرياف.
احتمال الفشل
وتعتبر الأقاليم الغربيّة مناطق منفّرة لرؤوس الأموال الخاصّة، ومهمّشة من قبل الدولة التي حرمتها من الاستثمار العام. حيث لم تتجاوز حصّة الشمال الغربي من الاستثمارات العمومية والخاصّة عام 2012 نسبة 4 بالمئة. بينما بلغت هذه النسبة في السنة ذاتها 48 بالمئة في الشمال الشرقي للبلاد.
وتزيد تقلبات السوق وقلة المعرفة لدى الشباب في الريف بالعمل التجاري من احتمال الفشل، وخصوصا بالنسبة للحاصلين على قدر ضئيل من التعليم، ولهم القليل من المهارات يجدون من الصعب عليهم التنافس مع الشركات في المناطق المهمشة. وحتى عند انتقالهم إلى المدن، يشتغل الكثير من الشباب القادمين من الريف بأعمال يدوية منخفضة الأجر، وغير رسمية، مثل أعمال النظافة، والأمن، وأعمال البناء.
المفارقة أن غالبية الشباب في الأرياف يشتكون من قلة فرص العمل في حين أن قطاع الفلاحة خاصة في مواسم الجني تعاني من نقص بل ندرة في اليد العاملة، ويلجأ أصحاب المشاريع الفلاحية للنساء للقيام بأعمال جني المحاصيل، أو الأعمال الأخرى مثل إزالة الأعشاب الطفيلية والزراعة، ورغم أنّ الأجر الفلاحي للرجال أعلى مقارنة بالنساء فإن القطاع يعاني من عزوف الشباب عنه.
ويقول أصحاب المشاريع إن موسم جني الزيتون لوحده يتطلب ما لا يقل عن 120 ألف عامل خاصة وأن 80 بالمئة من عمليات الجني تتم بالطرق التقليدية لكنّ الفلاحين لا يجدون اليد العاملة الكافية ما يجعلهم يلجأون لتشغيل النساء ولا يقتصر النقص على هذا المجال فقط بل أيضا في جني الطماطم والتمور وغيرها من المنتوجات والأمر نفسه في قطاع البناء.
كما يلجأ المستثمرون في الزراعة إلى حل آخر وهو توظيف الأفارقة المتواجدين بتونس في الأعمال الفلاحية خاصة عند جمع المحصول. ورغم أنه لا توجد أرقام دقيقة حول عدد الأفارقة في تونس بما في ذلك الذين يتم توظيفهم في مختلف الأشغال المجهدة إلا أنّ العدد يتزايد وصار مرتفعا خاصة في السنوات الأخيرة.
وبسبب عدم شرعية إقامتهم في تونس يقبل العمال الأفارقة على العمل في شتى المهن والأعمال خاصة التي تصنف كونها شاقة أي التي يعزف عنها الشباب التونسي.
ويقول محسن السيد الخماري باحث علم اجتماع إنه رغم الجدل القائم حول الأرقام والإحصائيات التي كشف عنها معهد الإحصاء عام 2016، والتي تفيد أن الفقر سجل تراجعا بين 2010 و2015 بحوالي 5 بالمئة، إلا أن الفقر يعدّ أكبر معضلة في البلاد بعد مرور أكثر من ستين سنة على الاستقلال.
تداعيات ديموغرافية
تسبب ارتفاع نسبة النزوح في تداعيات سلبية أهمها الاختلال الديموغرافي والاقتصادي والاجتماعي، وتعمق التفاوت بين المناطق… كما أن الهجرة الداخلية لا تخلو من صدام بين سكان المدينة الأصليين والنازحين واختلاف طرق العيش وصعوبة الحصول على عمل للشباب الوافدين وارتفاع كلفة المعيشة والاكتظاظ والضغط مما يجبر فئة واسعة منهم على البحث عن الربح السريع عبر الانخراط في شبكات الانحراف والسرقة والمخدرات… وذلك نتيجة الشعور بالظلم والعجز واختلاف الطباع مع سكان المدن.
وتؤكد الدراسات الاجتماعية أنه كلما كانت الفوارق الاجتماعية كبيرة بين المواطنين زادت نسب الجريمة وهو ما يحدث في بعض المناطق التي تعاني من هذه الظاهرة.
من ناحية أخرى، فإن تفاقم هذه الظاهرة يسبب تضخم المدن خصوصا على المدى البعيد، ما يجعل من رفع التحديات على مستوى التنمية البشرية أمرا معقدا إلى حد ما خاصة توفير الشغل والمسكن اللائق والعدل على مستوى توزيع الثروة بين جهات البلاد.
ويقول الباحثون إن المشكلة لا تخص تونس وحدها، إذ إنها مشكلة عالمية في مختلف دول العالم، ومفتاح الحل هو إشراك المواطنين؛ فالمبادرات التي تنطلق من القاعدة إلى القمة تقوم بدور “مُعزز للتماسك الاجتماعي”، حيث تشجع الناس على العمل، وعلى سبيل المثال، تنظيم جمعيات في شكل أسهم لتربية الماشية وزراعة الخضراوات. ويمكن لهندسة الأراضي أن تحسِّن من ظروف الزراعة والمحاصيل.
وتحظى مشكلات الريف بقدر أقل من الدراسة عن تلك المناطق الحضرية التي تجذب العلماء وأغلب الباحثين، إذ تتوافر فيها الأموال، ويُنظر إليها على أنها أكثر محورية للتنمية من المناطق الريفية.
وتحتاج المجالات الأكاديمية التي تركز على مشكلات الريف – مثل المرونة، وتجميع الأراضي، والمحافظة على التراث الثقافي، وتخفيف حدة الفقر والكوارث – إلى المزيد من البحوث. وهناك حاجة إلى مناهج وتقنيات علمية لاقتراح أفضل الاستراتيجيات لتحسين البنية التحتية، وأنماط الزراعة.
وينبغي على الحكومات تعزيز التوسع الريفي، جنبًا إلى جنب مع التوسع الحضري. كما يجب أن يتمتع قاطنو القرى والمدن بالمساواة في الحقوق من حيث الحصول على الموارد، والخدمات العامة، والرخاء الاجتماعي.
ويحتاج سكان الريف إلى منصات، يمكنهم من خلالها الحصول على عمل، أو إنشاء أعمال خاصة، مع رعاية عائلاتهم ومزارعهم في الوقت ذاته. ويمكن للمدن الصغيرة والبلدات أن تقوم بدور الجسر الذي يتم عن طريقه توصيل خدمات التعليم والصحة والمعلومات والخدمات الإدارية إلى القرى النائية.
ويجب على الحكومات المحلية أن تقوم بتطوير استراتيجيات لجذب المشروعات والأعمال، مع تقديم امتيازات ضريبية، وتخفيض أسعار الأراضي، بل وتقديم أراض بالمجان.