الرياضة سلاح فعال لاقتلاع جذور الإسلاموفوبيا

اللاعب سفير رياضي قادر على هزم خطابات التطرف في معاقلها.
الثلاثاء 2019/06/04
سجود يعشقه محبو ليفربول

كل من يتابع اللحظات الأولى التي تلي تسجيل لاعب كرة القدم والنجم المصري محمّد صلاح لأي هدف مع نادي ليفربول في الدوري الإنكليزي الممتاز لكرة القدم أو دوري أبطال أوروبا، يلاحظ أن ملعب أنفيلد يكاد ينفجر من شدة فرح المشجعين الذين ينسون في لحظة سعادة هستيرية كل الحواجز والشعارات العنصرية وخاصة تلك المتضمنة لحقد على المسلمين، ليتبيّن أنه بات بإمكان الرياضيين المسلمين والعرب أن يحولوا طاقاتهم بقصد أو بغير قصد إلى أسلحة فعالة تقتلع جذور التعصب والإسلاموفوبيا مثلما فعل من قبلهم ضحايا العنصرية من ذوي البشرة السوداء والذين نجحوا في فرض الأمر الواقع بعدما ثبّتوا أنفسهم كجزء من النسيج الاجتماعي المقبول في أوروبا.

 لندن - الرياضة باتت كما الثقافة تماما تعد -علاوة على أدوارها المتعارف عليها على أنها من أفضل الوسائل الناجعة في تقريب الشعوب وتلاقح الحضارات والثقافات- من أهم الأسلحة الفعالة القادرة على قطع الطريق أمام الشعارات المتطرفة التي غزت العالم وآخرها الإسلاموفوبيا التي اخترقت المجتمعات الغربية وخاصة منها الأوروبية.

لاعب كرة القدم المصري محمد صلاح ونجم نادي ليفربول الإنكليزي بات في السنوات الأخيرة من أهم الوجوه الرياضية المسلمة الحاملة لرسائل وئام وتسامح، خاصة وأن تألقه وكتابة اسمه بأحرف من ذهب في ناد عريق مثل ليفربول كان متبوعا بنتائج أخرى على رأسها مساهمته في نشر صورة عن المسلمين تكسر المشهد النمطي الذي يروجه مصطلح الإسلاموفوبيا.

مهمة إنسانية نبيلة

بالفعل نجح “الفرعون الصغير” في مهمته الإنسانية النبيلة، حتى قبل أن يظهر دوره الكبير وبشكل لافت في حصول ليفربول على دوري أبطال أوروبا للمرة السادسة في تاريخه السبت الماضي، حيث كشفت دراسة بريطانية حديثة قبل مواجهة ليفربول لنادي توتنهام أن صلاح كان له أثر في تراجع الإسلاموفوبيا وجرائم الكراهية في مقاطعة ميرسيسايد، معقل فريق ليفربول، شمال غربي إنكلترا.

الدارسة أجراها “معهد سياسة الهجرة” البريطاني ونشرها، الجمعة، بعنوان “هل يمكن أن تساهم الشهرة في الحد من الأحكام المسبقة؟ أثر محمد صلاح على المواقف والسلوكيات المعادية للإسلام”.

والسبت، تغلب ليفربول على توتنهام بهدفين نظيفين ليحقق لقب دوري أبطال أوروبا الغائب عن خزائنه  منذ 14 عاما. وسجل صلاح هدف التقدم لفريقه من ضربة جزاء، ليصبح أول لاعب مصري يسجل هدفا في نهائي تلك البطولة القارية، وثاني لاعب عربي بعد الجزائري رابح ماجر.

واستندت الدراسة إلى رصد 936 جريمة كراهية على مستوى مقاطعة ميرسيسايد، و15 مليون تغريدة لمشجعي كرة القدم في المملكة المتحدة، ودراسة استقصائية شملت 8 آلاف و60 من مشجعي ليفربول.

ووفق نتائجها، كان لافتا أن انتقال صلاح إلى ليفربول عام 2017 لم يؤثر إيجابا فحسب على أداء النادي، الذي فاز بدوري أبطال أوروبا، السبت، بل ترك أثرا إيجابيا أيضا على المنطقة التي انتقل إليها بأكملها (ميرسيسايد). إذ انخفضت جرائم الكراهية في ميرسيسايد منذ انتقال صلاح إلى ليفربول بنسبة 18.9 بالمئة.

كما انخفضت أيضا وفق الدراسة التغريدات المعادية للمسلمين لدى جماهير ليفربول إلى النصف من 7.2 بالمئة إلى 3.4 بالمئة.

وأرجع القائمون نتائج الدراسة إلى زيادة معرفة البريطانيين بالإسلام بعدما قدم صلاح صورة إيجابية عنه.

إن الإسلاموفوبيا تعني اصطلاحا الخوف الجماعي المرضي من الإسلام والمسلمين، وهو نوع من العنصرية قوامه جملة من الأفعال والمشاعر والأفكار النمطية المسبقة المعادية للإسلام والمسلمين. ويُرجع مؤرخو الحقبة الاستعمارية استعمال مفهوم “الإسلاموفوبيا” -الذي يعني “رُهاب الإسلام” أو الخوف المرضي من الإسلام- إلى بدايات القرن العشرين.

وبعيدا عمّا أثبتته الدراسة البريطانية، فإن صلاح بدا وكأنه من جهته يقصد عبر سلوكاته فوق الميدان فرض ثقافة بديلة لتلك التي طغت في أوروبا والمعادية للإسلام والمسلمين، فالنجم المصري كان يتعمّد عند تسجيله أي هدف في مرمى الخصوم رفع يده إلى السماء والسجود على أرض الملعب، فيهدأ الجمهور قليلا ليسمح له بلحظة هادئة من التفكر، وحين ينهض صلاح من السجود، يرتفع ضجيج المدرجات مرة أخرى ليواصل محبوه الاحتفال.

هذه المقاربة الرياضية القادرة على جعل نفسها بديلا عمليا يمتص ويخفت أصوات دعاة النعرات العنصرية والمتطرفة، تطرح على بقية لاعبي كرة القدم والرياضيين المسلمين بصفة عامة معادلة ممكنة التحقيق للنسج على منوال اللاعبين من أصول أفريقية ومن ذوي البشرة السمراء الذين نجحوا إلى حد بعيد في السنوات الأخيرة في فرض حقيقة وأمر واقع جعلاهم ينخرطون بشكل مرضي في المجتمعات
الأوروبية.

إلى وقت غير بعيد، كان سرطان التمييز العنصري ضد اللاعبين الأفارقة يسري في كامل جسد أوروبا، حيث كان جل اللاعبين من ذوي البشرة السمراء ضحايا هتافات عنصرية لا تمت لجوهر الرياضة وأهدافها النبيلة بصلة.

لكن صمود كل من تعرضوا لهجمات شرسة، حتى من جماهير ناديهم، وبمساندة زملائهم من البيض ومدربيهم، جعلهم ينجحون في كسر نمطية المشهد بفرض أنفسهم كجزء لا يتجزأ من المجتمعات الأوروبية، وكل هذا يزيد مضاعفة مسؤوليات اللاعبين العرب والمسلمين للقضاء من جهتهم على غول “الإسلاموفوبيا”.

للوهلة الأولى تبدو المهمة صعبة جدا، فكيف يمكن في وقت وجيز للاعبين المسلمين أن يغيروا المزاج العام الأوروبي الذي استحوذت عليه التوجهات الشعبوية المتطرفة، لكن مجرّد تسليط الضوء على بعض التجارب يؤكّد أن حلم أي رياضي بالمساهمة في إرساء أجواء التسامح ليس صعب المنال.

إن نجاح اللاعبين السود ومن أصول أفريقية في كسب ود الجماهير بمختلف انتماءاتهم الفكرية أو حتى الأيديولوجية المتعصبة لم يكن عملا سهلا بل مضن على أبعد الحدود، فما شهدته مباراة المنتخب الإنكليزي ضد منتخب مونتنيغرو في كأس العالم بروسيا عام 2018 من هتافات عنصرية ضد اللاعب داني روز الإنكليزي خير دليل على ذلك.

ففي المباراة المذكورة، تعمّدت الجماهير المونتنغروية إصدار أصوات تشبه أصوات القردة بعد حصول اللعب روز على ورقة صفراء، لكن مدرّبه جاريت ساوثغيت تكفّل بمهمة حمايته والدفاع عنه بقوله إن “هذا سلوك لا يمكن السكوت عليه”، ما جعل الجماهير الإنكليزية تتفاعل مع اللاعب رغم اختلاف توجهاتها الفكرية.

ثم إن النجم المصري محمّد صلاح بدوره، تعرض قبل أشهر قليلة من نهائي دوري أبطال أوروبا، لهجمة عنصرية شرسة استهدفته لكونه عربيا ومسلما. وكان ذلك تحديدا بعد أن أصدر مشجعو فريق وستهام يونايتد الإنكليزي خلال مباراة جمعت فريقهم بنادي ليفربول في الدوري الإنكليزي هتافات مسيئة للاعب بوسمه “صلاح مفجر إرهابي”.

لكن صمود صلاح في وجه كل هذه العراقيل، بوّأه بعد أسابيع قليلة فقط أن يكون بمثابة رمز التسامح والسلام والوئام بين الأديان ومساهما بدرجة كبيرة في التخفيف من حدة نعرة “الإسلاموفوبيا” في معالمها بإنكلترا وهو ما أثبتته الدراسة البريطاينة.

سفراء نوايا حسنة

أن تكون لاعب كرة قدم أو رياضيا في أي من الرياضات الأخرى، ليس معناه بالضرورة أن تكون سلبيا أو غير حامل لمواقف ومبادئ بإمكانها المساهمة في نشر ثقافة التسامح، فالتشبث بدينك أو بلونك أو بعرقك هو نقطة قوة وليس العكس، لكن شريطة أن تكون الممارسة متطابقة مع قيم التحابب ونابذة للفكر المتعصّب والمتطرف.

آخر الحوادث الحميدة، التي تؤكّد أنه بات بإمكان لاعب كرة قدم عربي أو مسلم أن يكون قاطرة أولى تدفع لتغيير المزاج العام الأوروبي المتعاطف مع شعارات الإسلاموفوبيا، تمثّلت دون شك في ما حصل قبل أسبوع تقريبا في الدوري الفرنسي حيث شهدت إحدى المباريات لفتة إنسانية رائعة تمثلت في تعمد الحكم إيقاف المباراة التي جمعت نادي نيس مع موناكو بعد مرور ست دقائق على بدايتها، حتى يتمكن لاعب نيس يوسف عطال من شرب الماء ليحل صيامه.

واحتفت مواقع التواصل الاجتماعي بالجزائر والعالم العربي والدول المسلمة بحرص نجم منتخب “الخضر” الصاعد عطال على الصيام، كما أشادت بحكم المباراة رودي بوكييه على موقفه الحضاري الإنساني.

هذه اللقطة كانت بمثابة المحفّز الهام للاعب الجزائري الذي تألق وكان أحد عوامل فوز نيس بهدفين نظيفين على حساب نادي موناكو.

تجارب اللاعبين من أصول مسلمة متجذرة في تاريخ الرياضة الأوروبية، لكن العديد من العوامل لم تسمح مثلا لنجومية اللاعب والمدرب الفرنسي المسلم زين الدين زيدان الذي خط تاريخ منتخب “الديكة” بأحرف من ذهب بأن تكون اليوم سلاحا مضادا لمفهوم الإسلاموفوبيا الذي غزا القارة الأوروبية.

وعلى هذه التجربة الأخيرة قس، فاللاعب الفرنسي الآخر والمتألق في صفوف نادي ريال مدريد كريم بنزيمة، كان وفق العديد من التقارير ضحية تديّنه وإسلامه وهو ما حرمه من أن يكون نجما في مونديال روسيا 2018 بعدما رفض المدرب الفرنسي ديديه ديشان دعوته لتعزيز تركيبة المنتخب الفرنسي الحائز على آخر نسخة من كأس العالم.

كل هذه المطبّات الأخيرة، تجعل اللاعبين المسلمين أمام حتمية الظهور بشكل أفضل للنسج على منوال الأفارقة من ذوي البشرة السوداء الذين كان لهم نصيب كبير في طي نسبي لصفحة التعصب القائمة على نبذ اللون الآخر. وتجربة المنتخب الفرنسي في العقود الأخيرة القائمة تركيبته في أغلب الأحيان على أكثر من 50 بالمئة من اللاعبين من أصول أفريقية خير دليل على ما يمكن أن تقدّمه الرياضة في بعض القضايا الإنسانية.

ولئن تعد فرنسا، نموذجا أوليا لبداية تغير العقليات الأوروبية حيال الآخر، خاصة بعدما نجح اللاعب كيليان مبابي في خطف محبة الجماهير الفرنسية رغم أنه أسود اللون ومن أصول أفريقية، فإن هذا المثال بات ضرورة ملحة وجب أن تشمل بقية دول أوروبا الغربية للقضاء بصفة تدريجية على الشعارات الحاقدة على المسلمين وغير القادرة على التفريق بين الدين والإرهاب.

على غرار محمّد صلاح وبعض اللاعبين من أبناء المهاجرين المسلمين من الجيل الثاني والثالث، توجد أيضا تجربة هامة يمكن البناء عليها لإدراك حقيقة ما يمكن أن تقدّمه الرياضة لتجاوز معضلة “الإسلاموفوبيا” وتتعلق أساسا بتجربة اللاعب الدولي التونسي السابق والمدرب الحالي لنادي ساوثمبتون الانكليزي لأقل من 23 سنة راضي الجعايدي والذي حقق الصعود إلى الدوري الإنكليزي الممتاز بعد تفوقه في الأسابيع الأخيرة في نهائي المباريات الفاصلة على نادي نيوكاسل بهدفين لهدف.

تجربة هذا الرياضي العربي تجمع بين عاملين أساسيين يحتمان ضرورة الخوض في مسيرته ومساهمته حتى بغير قصد في بعث رسائل هامة تؤكّد أن الرياضة في جوهرها العميق لا تحتكم لتلك التقييمات الدينية أو العرقية أو لمعيار اللون.

راضي الجعايدي، رياضي تونسي لم تعقه بشرته السمراء أو إسلامه وجذوره العربية، من نحت مسيرة رائعة تمكّن عبرها من اختراق النسيج المجتمعي الإنكليزي
راضي الجعايدي، رياضي تونسي لم تعقه بشرته السمراء أو إسلامه وجذوره العربية، من نحت مسيرة رائعة تمكّن عبرها من اختراق النسيج المجتمعي الإنكليزي

راضي الجعايدي، لم تعقه بشرته السمراء أو إسلامه وجذوره العربية، من نحت مسيرة رائعة تمكّن عبرها من اختراق النسيج المجتمعي الإنكليزي، فهذا اللاعب من ذوي البشرة السمراء بدأ مسيرته كلاعب في الدرجة الأولى الإنكليزية مع نادي بولتون ثم أكمل تجربته كلاعب في صفوف نادي ساوثمبتون ليبدأ مسيرة التدريب في نفس الفريق الأخير.

وفي آخر إطلالة تلفزيونية على محطة تونسية للجعايدي عقب الإنجاز الرياضي الذي حقّقه في الدوري الإنكليزي، تحدّث الرجل عن الأسلحة التي توسلّها لرسم صورة جيدة عن شخصيته ومكانته كلاعب مسلم في أعتى دوري كرة قدم في العالم.

وفي أدق التفاصيل التي أشار إليها الجعايدي في علاقة بتأقلمه مع المجتمع الإنكليزي، أبرق العديد من الرسائل التي تفيد بأن على اللاعب أو الرياضي المسلم أن يظهر بشكل وبسلوك محترمين لكي يتمكّن من جر الجماهير وراءه وكسب عطفهم الذي يؤدي بالنهاية إلى تغيير الأفكار المتعصّبة السائدة في بعض الدول الأوروبية عن كل من هو مسلم.

ويتشبث بأن احترام ثقافة وعادات المجتمع الذي ينخرط فيه الإنسان، هو وحده القادر على رسم صورة أجمل تجعل الجميع متسامحا مع الآخر بغض النظر عن دينه أو لونه أو عرقه.

في المحصلة، تبقى جهود بعض الهياكل الدولية لمكافحة التطرف والتعصب، كالاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” هامة لما تتضمنه من استراتيجيات لمكافحة كل أشكال العنصرية، لكن تجاهل هذا الهيكل مثلا لما تعرض له لاعب ليفربول محمد صلاح والمهاجم الدولي الإيطالي ولاعب يوفنتوس مويس كين أسمر البشرة وعدم ضمهما إلى قائمة اللاعبين الذين أعلن عن مساندتهم إزاء الحملات العنصرية التي تعرضوا لها في مختلف الملاعب الأوروبية في عام 2019 يجعلان هذين اللاعبين وغيرهما أمام حتمية مزيد تقديم ما لديهم من عروض رياضية وسلوكات حميدة للقضاء نهائيا على النعرات المتعصبة وفي مقدّمتها موضة الإسلاموفوبيا التي باتت بمثابة المشرّع الأول للتطرف الأبيض الغربي.

12