الروائي الأردني زياد محافظة: الأدب يعيد إحياء المدن

يمتاز الأدب الذي يقدّمه الروائي الأردني المقيم في الإمارات العربية المتحدة زياد أحمد محافظة، بالواقعية واقترابه من هموم المجتمع، فنراه في أعماله السابقة يستعين بعوالِم غرائبية سحرية لتمرير الأفكار بصورة تكون طبق الأصل للواقع المعيش، فمثلا في روايته “نزلاء العتمة” الحائزة على جائزة أفضل عمل روائي خلال فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب 2015، لجأ الكاتب خلال فضاءاتها إلى عالم الأموات لتجري الأحداث في عوالم مُتخيّلة تحت الأرض لنماذج تنتقل بين الحياة والموت بكامل الذاكرة.
أوطان أفضل
في روايته الأخيرة “أفرهول” يذهب محافظة إلى تقييد المكان الجغرافي لشوارعَ يعرفها القارئ وأماكن يمر بها يوميا خلال حياته في العاصمة الأردنية عمَّان. نسأله عن محاولته تقديم المكان بوصفه بطلا في “أفرهول”، ليقول “إن شعوره الشخصي بقلق عمان المدينة وارتباكها دفعهُ إلى فرض حضورها المكاني بكامل بذخها وأناقتها وخوفها وهواجسها، لأنها سرّ الحكاية ولغزها”.
ويتابع ضيفنا “في هذه الرواية تتقدم عمّان، التي كثيرا ما أحلنا عليها خيباتنا وإخفاقنا وعانت ما يكفي من الجحود وتنكّر لها أقرب الناس إليها، بحضورها الحقيقي ودلالتها الرمزية لتعبّر عن قلقها ومخاوفها، وتدافع عن حقها في الحياة والحب والحرية والنور، فتقف بوجه من يريد امتصاصها أو التلاعب بها”. وهكذا يتمنى محافظة أن تسترد مدينته عافيتها، وهذا الاسترداد يأتي عن طريق مساعدتها على ذلك، ولا يتم بآلية التغزُّل بها والاشتراك في قهرها.
وقادنا حديث محافظة عن فكرة الوطن إلى عوالم النص مرة أخرى، حيث طرح تصوّرا عبر علاقة الشخصيات ببعضها، يقوم على أن الوطن يلتقي مع ما يألفهُ الإنسان في تفاصيل صغيرة، تفاصيل تكبر لتكوِّن العالم الأكبر، وهنا نسأل ضيفنا عن فهمِه لمعنى الوطن الغائب الحاضر والمُهدَّم أو المهترئ في صورة عمان التي قدَّمَها في “أفرهول”، ليقول إنه رغم إقامته في الإمارات العربية المتحدة منذ قرابة العقدين، إلا أنَّه متابع دقيق للمشهد السياسي والاجتماعي والثقافي والحياتي في الأردن، يرصد ما يجري ويحلِّل الأحداث بدقة، ويعي جيدا المرارة التي يعيشها الناس، والوهم الذي يباع لهم في الكثير من المرات، على حد وصف ضيفنا.
الرواية عند زياد محافظة ليس مطلوبا منها أن تزمر وتدق طبول الإنجازات، فقيمتها تكمن في فتح الجرح وتطهيره
ويتحدث زياد محافظة هنا بضمير الجماعة ليعترف بأنه على قناعة تامة أننا كشعوب نستحق حياة أفضل من هذه التي نعيشها على الهامش، فقد مورست ضدنا كل أشكال القهر والكبت والتضليل، ودفعنا باسم السياسة والدين والوطن والمصير المحتوم والتحديات الكاذبة، أثمانا غالية تبيّن في ما بعد أننا الوحيدون الذين تحملنا وزرها، بينما ابتلعت طبقة صغيرة منعّمة الوطن كله، ليطالب ضيفنا بأن نكون شركاء في رسم مستقبلنا ومستقبل أولادنا، نريد أن نحب أوطاننا لأنها لنا، وليس لأننا نمتص ونسمن من ثديها فقط.
العام والخاص
ولكلمة “أفرهول” بالدارجة المحلية الأردنية، وقع قوي ومعنى عميق الدلالة، وهي المفردة التي تتكرر كثيرا عندما يجد الإنسان نفسه أمام شيء قد تردى لدرجة العطب والاهتراء، وبات بحاجة ماسة إلى الإصلاح، خشية الوصول إلى خراب لا يرجى بعده شيء.
|
وتتضمن الرواية سبرا لمراحل زمنية منذ سنوات الطفولة وحتى الكهولة من حياة الأبطال بصورة لا تخلو من المحاكمة، وكأن المصائر هي نتائج للواقع الثقافي والاجتماعي الذي يعيشه الإنسان في مراحله الأولى. ونسأل ضيفنا عن ارتكازاتِه حينما أجرى تلك المحاكمات وخصوصا المستقبلية منها، لينفي سعيه إلى عقد محاكمات لأحد، أو حتى مُساءلة الماضي، بقدر ما يرى أن سبر حياة شخوص الرواية منذ سنواتها الأولى، سيمنح القراء فهما عميقا لحياتها والتبدلات التي طرأت وأثرت فيها، كما سيساعد في تكوين صورة أكثر واقعية لها وبالتالي الحكم عليها بصورة موضوعية وعادلة.
فالشخوص الروائية في النص هي في النهاية صورة عن حياة المدينة وقصص سكانها، وضيفنا لم يسع -كما يقول- إلى تكوين علاقته بشخصيات الرواية مضطربة، فكل شخصية في النص عندها ما يكفيها من الهواجس والمشاغل والاهتمامات، وكل ما فعلَه هو أنَّه ترك لها حرية رسم مسارها ومستقبلها، وتقرير خياراتها بنفسها.
وقادنا الحديث عن تقرير المصائر إلى توجيه سؤال له عن التقنية التي اعتمدها في إعادة إنتاج التفاصيل اليومية سواء من ذاكرته أو من ذاكرة الآخرين، بحيث أتت بصورة راسخة وواضحة في الرواية، ليؤكد أنَّه حاول قدر المستطاع أن يأتي بقصص الناس البسطاء، لأنها الأكثر صدقا وواقعية، وقد أتاح له الفضاء الروائي للأحداث في مقهى بمنطقة اللويبدة في العاصمة عمّان، الفرصة لمقاربة العام بالخاص، وهذه المقاربة هي التي فرضت شكل الرواية دون الالتزام بقالب سواء أكان كلاسيكيا أم حديثا، فأتت الكتابة كما يحلو لها في تتبع مصائر الشخوص ومآلاتهم بناء على مسافة واحدة من السارد، وهذه المسافة التي كانت واضحة في بعض الحوارات التي لجأ فيها الراوي إلى المحكية الأردنية لتمريرها.
محاذير الكتابة
رواية “أفرهول” يُمكِن وضعها في قائمة الروايات الاجتماعية التي تواجه عيوب العقد الاجتماعي والسياسي المسكوت عنها عموما، وهنا نسأل زياد محافظة عن المحاذير التي فرضها على قالب الرواية خلال عملية الإنتاج، ليقول إن هناك فرقا كبيرا بين أن تكتب المشكلة وأن تكتب حولها.
الإمبريالي في عمان
|
مازن الأميركاني أو الإمبريالي هو إحدى الشخصيات المحورية في الرواية، لكن رغم ذلك هناك محاولة للفصل بينه وبين المجتمع الأردني، وكأنَّ تأثيراته جاءت فقط في الجانب السياسي، ونسأل ضيفنا عن وضعِه في هذه الزاوية وعن تقاطع حكايته مع السيرة الذاتية لزياد محافظة، ليقول صاحب “نزلاء العتمة” إن “أفرهول” اعتمدت تقنية الأصوات المتعددة، وتتناوب على مهمة السرد فيها أربع شخصيات بمساحات بوح تكاد تكون متقاربة، ووجود الشخصية الإشكالية لمازن الإمبريالي، التي تنهض بمهمة السرد المحورية، يجعلها مركزا تلتف حكايا الباقين وقصصهم حولها وتتقاطع معها، فهي كما يصفها ضيفنا الخيط الذي نسجت به قماشة العمل برمته.
وعن تقاطع السيرة الذاتية مع الشخصيات، يرى الروائي أنَّ القارئ بشكل عام ميّال بطبيعته إلى البحث عن ملامح الكاتب في شخصيات وأبطال الرواية، وهذه حقيقة يعلمها الروائيون جيدا، لذا يحاول الروائي أن يذيب شخصيته الحقيقية ويترك لأبطال العمل حرية التعبير عن هواجسهم وأفكارهم وأحلامهم دون أن يقحمهم في مشاكله أو تعقيداته، لذا كثيرا ما يوجّه ضيفنا رسالة للقراء حول هذه الرواية بقوله “لا تتعبوا أنفسكم في البحث عن شخصيتي الحقيقية لهذه الرواية”.
وزياد أحمد محافظة الذي ولد في العام 1971، هو من أبرز الروائيين الأردنيين ولم يمنعه اختصاصه العلمي (ماجستير في الإدارة العامة) وإقامته خارج أرض الوطن من أن يخط له تجربة كتابية مختلفة وثرية تناولت تفاصيل مجتمعه ومشاكله، فصدرت له العديد من الأعمال الأدبية أبرزها رواية “بالأمس كنت هناك”، و”يوم خلتني الفراشات”، و”نزلاء العتمة” التي حازت على جائزة أفضل رواية عربية في معرض الشارقة للكتاب 2015، إضافة إلى روايتي “أنا وجدي وأفيرام”، و”أفرهول”.