الرهان على مبادرة السلام الصينية لأوكرانيا مجرد أوهام

طريقة تعاطي الصين مع الحرب الأوكرانية – الروسية وخاصة بطؤها وتأنيها يثير الشكوك في جديتها للتوصل إلى السلام عن طريق المبادرة التي طرحتها، لاسيما أن نهاية الحرب، وهزيمة أحد الطرفين ولو كان حليفتها روسيا، ستصب لصالحها.
لندن - التوقعات بأن تؤدي “المبادرة الصينية” لإحلال السلام في أوكرانيا إلى وقف الحرب، ليست سوى لعبة أوهام. الحرب لن تتوقف، حتى يقبل أحد الطرفين الهزيمة، ويتحمل أعباءها كاملة. لا يوجد خيار واقعي آخر. ولئن كان ذلك يعني وقوفا على حافة حرب نووية، فذلك ما سوف يكون.
الحقيقة غير المنظورة، هي أن الصين تريد أن ترى نهاية الحرب، لا أن توقفها في منتصف الطريق. ونهاية الحرب مفيدة لطموحاتها، سواء انتهت بهزيمة روسيا، أو انتهت بهزيمة أوكرانيا.
لا يمكن النظر إلى هذه الحرب إلا من زاويتين. الأولى، تتعلق بالصدام المباشر بين بلدين وقوتين، روسيا والتحالف الغربي المساند لأوكرانيا. والثانية، بالعواقب الدولية لنتائج هذا الصدام. ومن هاتين الزاويتين، فإن الصين هي الرابح الأكبر، كيفما كانت النتائج.
شيء له معنى أن تتعامل الصين مع الحرب ببطء شديد. فهي لم تطرح “مبادرة” إلا بعد مرور سنة كاملة تقريبا على اندلاع الحرب. والرئيس الصيني شي جينبينغ لم يتحدث مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي عن المبادرة إلا بعد مرور ثلاثة أشهر على طرحها، ومبعوثه الخاص لم يصل بعد إلى كييف. وقد لا يصل قبل مرور عدة أسابيع، وبكل تأكيد فإن المفاوضات لن تنطلق، إذا تم التوافق على أسسها، قبل مرور عدة أشهر، والسلام إذا قيض له طريق، فإنه لن يتحقق قبل مرور عدة سنوات.
لماذا؟ لأن الصين تنتظر نتائج المعركة، وليس وقفها. البطء نفسه مفيد لطرفي القتال. روسيا وأوكرانيا يحتاجان، على حد سواء، إلى المزيد من الوقت للحصول على معدات وذخائر وإعداد مواقعهما الدفاعية والهجومية. أقصى ما يمكن للصين أن تفعله، عبر مبادرتها هو أن تعرض العودة إلى حدود الرابع والعشرين من فبراير 2022، أي إلى الساعة التي سبقت الاجتياح الروسي.
◙ أي توسع روسي على حساب الأراضي الأوكرانية، محدودا كان أم واسعا، فإنه سوف يمنح روسيا موقفا أشد صلابة على مستوى السعي لإعادة بناء نظام دولي جديد
هذه الساعة قد تعني انسحاب الجيش الروسي، من الناحية النظرية، إلا أنها تعني أيضا العودة إلى بيئة النزاع المسلح التي كانت سائدة في مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك في إقليم دونباس. وهو ما يعني أن الجيش الروسي سوف يبقى داخل أوكرانيا من الناحية العملية. وحتى العودة إلى “اتفاق مينسك” الذي يقضي بمنح إقليم دونباس “وضعا خاصا”، أو نوعا من “الحكم الذاتي”، سوف تعني بقاء روسيا وميليشياتها في هذا الإقليم. هناك أكثر من 600 ألف مواطن في هذا الإقليم يرغبون بأن يكونوا جزءا من روسيا، وهم يحملون الآن جوازات سفر روسية، لا هم ينوون التخلي عنها، ولا موسكو سوف تتخلى عنهم، والأرض أرضهم، وهم كانوا يحاربون، بدعم من موسكو، من أجل ضمها إلى روسيا، أو على الأقل، من أجل أن يُبقوا على روابط وثيقة معها.
مبادرة السلام الصينية، من هذه الناحية، تجعل مصير دونيتسك ولوهانسك موضع سجال، حتى لو تحت غطاء “الحكم الذاتي”، تطبيقا لاتفاق مينسك. وعلى الرغم من أن القوات الأوكرانية، في الساعة التي سبقت الاجتياح الروسي، كانت لا تزال، وحتى يومنا هذا، تسيطر على أجزاء واسعة من هذا الإقليم فإن “المبادرة” سوف تعني التخلي عن تلك المناطق. إنما طبعا، في إطار مقايضة تسمح بتخلي روسيا عن ضم المقاطعتين الأخريين، زاباروجيا وخيرسون اللتين لا تزال تحتلهما.
القرم، بموجب هذه المبادرة، وبموجب القناعات المطلقة في موسكو، خارج الموضوع كليا. وبرغم التصريحات التي يطلقها المسؤولون الأوكرانيون عن “استعادة القرم”، فإن موقف كييف لا يزال خجولا. و”الخجل” هو ما يجعل الهجمات التي تُشن ضد مواقع القوات الروسية في القرم تُقيّد باسم مجهول. ربما لقناعة بين المسؤولين الأوكرانيين تقول إنه بينما يمكن التخلي عن القرم، فإن أوكرانيا يجب أن تستعيد سيادتها على باقي أراضيها على الأقل. وهذا ما لن يحصل. ليس لأن “المبادرة الصينية” لا تشمله فحسب، بل لأن خارطة الحرب نفسها لا تتيح سبيلا لتحقيقه.
الخارطة الراهنة تقول إن أوكرانيا تسيطر على أجزاء كبرى من دونيتسك ولوهانسك. بينما تسيطر روسيا على الأجزاء الأخرى، فضلا عن زاباروجيا وخيرسون. وأي مقترح لـ”تبادل الأراضي” لن يمنح أوكرانيا انتصارا. سيكون ذلك انتصارا صريحا لموسكو، وهو السبب الوحيد الذي يجعلها تتعامل بإيجابية مع “المبادرة الصينية”.
أي توسع روسي على حساب الأراضي الأوكرانية، محدودا كان أم واسعا، فإنه سوف يمنح روسيا موقفا أشد صلابة على مستوى السعي لإعادة بناء نظام دولي جديد. ولسوف يُظهر أنها كانت على حق في مهاجمة أوكرانيا، كما تتشدد حول القضايا الأمنية المتعلقة بتمدد الحلف الأطلسي، وترفض بكل تأكيد فكرة أن تدفع تعويضات لأوكرانيا عما ألحقته بها من دمار، كما ترفض ملاحقة جنودها، عدا عن الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، باتهامات تتعلق بارتكاب جرائم حرب.
السعي لبناء نظام دولي جديد قد يقتصر على استمالة المتضررين من الهيمنة الأميركية على النظام الراهن، أو المُهملين الذين لم تلتفت إليهم واشنطن بالدعم والمساعدات، إلا أنه يستهدف في نهاية المطاف رسم خارطة نفوذ دولية جديدة، تشبه إلى حد ما الخارطة التي كانت سائدة خلال سنوات الحرب الباردة. ولو تحقق ذلك بالفعل، فإن الصين ستكون هي المستفيد الأول، لأنها هي التي سوف تكون العمود الفقري، الاقتصادي، لهذا الشق من العالم.
هزيمة روسيا عسكريا أمر ممكن، إلا أنه مكلف على الجانبين. إنه مكلف لموسكو بما يجعلها أكثر ارتهانا للصين. كما أنه مكلف لدول التحالف الغربي، لأنه سوف يلزمها على تمويل الحرب، فضلا عن تمويل أوكرانيا نفسها. الأمر الذي قد يبلغ بها حد الإنهاك. ولكن النتيجة واحدة بالنسبة للصين. وهي أنها ستبقى تلك القوة الاقتصادية العملاقة التي لم يلحق بها الضرر.
لن تكون الصين بحاجة إلى “نظام دولي جديد”، تكسّر رأس الحربة الروسي دون الوصول إليه، لأنها ستكون قادرة على توظيف النظام القائم نفسه بما يؤدي إلى منحها نفوذا أكبر. في تلك الساعة، سوف يتحول اليوان إلى “شريك” حقيقي للدولار واليورو في النظام المالي الدولي. هذه الشراكة، سوف تعود لتقوم على القواعد والمعايير التي تفرضها قوى الهيمنة الكبرى، ولكن من دون أن تتعمد تجاهل الصين.
◙ مبادرة السلام الصينية، من هذه الناحية، تجعل مصير دونيتسك ولوهانسك موضع سجال، حتى لو تحت غطاء “الحكم الذاتي”، تطبيقا لاتفاق مينسك
هذا التجاهل، بكل ما ينطوي عليه من سياسات “احتواء” وتضييق، سوف تكتب له النهاية. فإذا أخذ بعين الاعتبار حجم المصالح الصينية القائمة في إطار النظام الدولي القائم، فإن هزيمة روسيا أكثر نفعا لبكين من انتصارها.
انقلاب الحرب من نزاع إقليمي محدود بين روسيا وأوكرانيا، حول مستقبل إقليم دونباس، إلى صراع دولي حول مستقبل النظام العالمي، كان هو الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الرئيس بوتين. فعدا عن أنه جند كل دول التحالف الغربي ضده لتصبح طرفا مباشرا في الحرب، فإنه أضفى على أي تغيير في الخرائط، بعدا يتصل بالتوازنات الدولية الكبرى، وليس بالتسويات الثنائية حول مستقبل هذا الجزء أو ذاك من الأراضي الأوكرانية.
المبادرة الصينية للسلام، لم يعد بوسعها أن تخفض مستوى هذه الحرب. لقد فات الأوان على ذلك. إنه أمر كان يمكن الأخذ به خلال الأسابيع الأولى من اندلاع الحرب، ولكن ليس بعد مرور أكثر من عام على حرائقها.
لهذا السبب، فكل ما بقي لهذه المبادرة، هو أن تدفع بالمعركة إلى الأمام. ولكن، ليس من أجل أن تمنح روسيا انتصارا لا تستحقه. أولا، لأنها مبادرة لا صلة لها بالواقع، من ناحية شكل الخرائط التي تقترحها. وثانيا، لأن العودة إلى الساعة التي سبقت بداية الاجتياح الروسي باتت مستحيلة الآن، من ناحية أن الحرب انطوت على جرائم وأعمال دمار وتهديدات وأعمال ابتزاز لم يعد من الممكن شطبها.
المبادرة لم تتأخر عن عبث. بكين آثرت أن تنتظر نتائج المعركة منذ البداية. وهي لم تتدخل إلا عندما زادت الضغوط عليها لكي تطرح موقفا يتناسب مع مكانتها كقوة عظمى وكعضو دائم في مجلس الأمن. فعرضت مخططا غامضا، يقول بـ”وحدة وسيادة الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة”، ولكنه لا يحدد موقفا من مستقبل أقليمي دونباس والقرم في إطار تلك “الوحدة والسيادة”، على الرغم من أنهما جوهر النزاع الراهن على الأرض، أو جوهر الخارطة التي تحدد من المهزوم ومن المنتصر.