الرحى.. رفيقة قديمة للمرأة العربية ومخزن الأهازيج الشعبية

توقفت حجرات الرحى عن الدوران في المنازل العربية بتوفر آلات الرحي العصرية التي توفر في وقت قياسي ووجيز أكبر كميات من أنواع الحبوب. حيث أن نمط الحياة العصرية في المجتمعات العربية جعل الرحى اليدوية من الأدوات التراثية التي ارتبطت بالذاكرة وبالأغاني والأهازيج والأشعار الشعبية التي كانت المرأة ترددها أثناء استخدامها للرحى.
الاثنين 2015/12/14
\"في الصبح نرحي وفي العشية نرحي\"

تونس - كانت الرحى إحدى أهم الأدوات المنزلية التي تستخدمها المرأة في المجتمعات التقليدية لطحن الحبوب وإطعام أهل بيتها، وهي في الآن ذاته رفيقتها التي تبوح لها بأسرارها وتشكو لها همومها وتعبر أمامها عن سعادتها.

وهذه العلاقة التي تجاوزت فيها الرحى مجرد الأداة المنزلية إلى صديقة للمرأة ومتنفس لها ممّا تلقاه من ضغوط في حياتها اليومية في مجتمعات ذكورية لا تمنحها حق التعبير عن ذاتها وعن مشاعرها، تقف وراء ولادة تراث غنائي شعبي ثري بالصور الشعرية الجميلة بصدقها وبتعبيرها التلقائي عن ضعف حال مستعملتها.

انسحبت الرحى من الحياة اليومية ومن عادات الطبخ في أغلب المدن العربية وأصبحت لا تحضر سوى في مناسبات إحياء التراث وفي المهرجانات التي تحيي العادات والتقاليد وتهتم بالأدوات المنزلية القديمة ليطلع جيل الصغار عمّا كانت تستعمله الجدات لرحي الحبوب. ولعل غالبية جيل الشباب والصغار تجهل صوت الرحي وطرق صنعها وكيفية استخدامها وطعم دقيقها الرطب والمرحي على مهل وبصبر، وبفعل الحداثة أصبحت الرحى اليدوية بأنواعها الأكثر قدما من بين مقتنيات المتاحف، ومن أدوات وتحف الديكور الذي يعتمد الطابع التقليدي بعد أن كانت أهم الأدوات لإعداد الطعام، حيث لا تغيب عن أغلب المنازل العربية في الأرياف والبوادي وفي بدايات تشكيل المدن. ولأن المرأة هي المكلف, بشؤون البيت ومنها الطبخ، فهي أكثر من يستعمل الرحى بشكل يومي، حيث تستبق نهوض بقية أفراد الأسرة من النوم لتعد رغيف الخبز من الدقيق الذي جهزته مرددة الأغاني والأشعار التي حفظتها ذاكرتها، مما كانت تردده أمها أو جدتها أو مما ألفته بنفسها.

زمن المكننة والحياة الحضرية المعاصرة غيب الرحى عن الاستعمالات في حياة المجتمعات الحديثة
ونجد في الموروث الغنائي القديم لأغلب الدول العربية العديد من الأغاني التي يمكن وصفها بالنسائية والتي كثيرا ما تحمّلها النساء كلمات وألحانا تعبر من خلالها عن حزنها أو فرحها. وفي المخزون الشعبي للتراث العربي في غالبية المناطق العربية نجد حكايات طويلة تناقلتها الأجيال المتعاقبة ووثقتها الأغاني البدوية والأغاني الشعبية والفلكلور من حديث النساء قديما مع الرحى.

العلاقة الوثيقة بين المرأة والرحى اكتسبت أبعادا نفسية واجتماعية ووجدانية مختلفة وتمخض عنها زخم غنائي وشعري مثّل أحد وجوه الإبداع في المجتمعات التقليدية. وبطرق وصف مختلفة تذكرها الأغاني الحديثة اليوم عندما تتحدث عن المجتمعات التقليدية وتسترجع صورا من الماضي والتراث.

كما نجد البعض من ذكر الرحى في الروايات والكتب الأدبية القديمة وكذلك في كتب التاريخ وفي وصف المؤرخين للحياة اليومية في المجتمعات العربية عبر مراحل تطورها التاريخي وصولا إلى زمن المكننة والحياة الحضرية المعاصرة التي غيّبت الرحى عن الاستعمالات في المجتمعات الحديثة.

الرحى اليدوية التقليدية تحمل تسميات عديدة باختلاف المناطق العربية ومنها “الطاحونة” و”الجاروشة” و”التارشة” (إذا كانت كبيرة الحجم) لعلها تكون آخر الأدوات الحجرية التي رافقت الإنسان في حياته لقرون حتى زمن غير بعيد. وتصنع الرحى من الحجر الخشن الثقيل أو من حجر الصوان الذي تسمح صلابته برحي الحبوب الجافة بأنواعها، وهي تُستعمل لاستخراج الدقيق الرطب وكذلك لجرش الحبوب وطحنها.

العلاقة الوثيقة بين المرأة والرحى اكتسبت أبعادا نفسية واجتماعية
ويركّب الحجران أحدهما فوق الآخر، ويكون السفلي منهما ثابتا بينما يتحرك الحجر العلوي حول محورٍ خشبي أو معدني تكون قاعدته مثبتة في الحجر السفلي الذي يطلق عليه في سوريا مثلا اسم “السندة” ويسمّى “قطب الرحى” (الذي اكتسب حضورا لغويا كبيرا)، وعندما يدور الحجر العلوي من الرحى فإنه يمر فوق حبات القمح أو الشعير التي توضع من فتحة دائرية صغيرة في وسط الحجر العلوي أثناء عملية التدوير، فتتكسر تلك الحبات كلما دار عليها حجر الرحى وقتا أطول حتى تصبح دقيقا ناعما.
أما الفراشة فهي قطعة خشبية مستطيلة كفراشة المغزل بها ثقب في وسطها تستعمل لمسك المحور وتثيبته حتى لا يتزحزح، والهاوي أو الهادي هو خشبة على شكل عصا صغيرة تثبت في الثقب الجانبي لتكون المقبض الذي يدير حجر الرحى العلوي، وأحيانا تلف عليها قطعة من القماش حتى لا تؤذي اليد، لأن احتكاكها باليد يسبب الآلام. ويفرش تحت الرحى بساط يكون من جلد الحيوان أو قطعة من القماش تسمى “الرقعة” ليسقط فوقها الحب المجروش أو المرحي.

وللرحى أبعاد رمزية اجتماعية حيث لا تمتلك جميع العائلات آلتها الخاصة فتقوم النسوة إما باستعارتها من الجيران أو يجتمعن في منزل إحداهن للرحي مع بعضهن ويتيح لهن القيام بهذه المهمة تبادل أطراف الحديث والنقاش وترديد الأهازيج

الشعبية لإضفاء جانب من الترفيه أثناء العمل الجماعي الذي يستغرق وقتا طويلا يمكن أن يكون مملاّ.

ومثلما انحصرت استعمالات الرحى نقصت أو انتهت صناعتها وتكاد حرفة ومهنة صانعي الرحي تصبح من الماضي رغم أن لها تقنياتها المميزة وطرقها ومراحلها التي تتطلب دراية كبيرة وخبرة خاصة في انتقاء المادة الأولية من أنواع الحجارة لتصميم جزأيها العلوي والسفلي أو فردتيها بمقاسات معيّنة وبسمك معين وبقطر يبلغ نحو 50 سنتمترا لكل منهما، بحيث يكون الجزء العلوي أقل سمكا ليكون خفيفا أثناء تدويره وكذلك تتطلب طرق صناعة بقية أجزاء الرحى نفس الدقة في اختيار المواد الأولية ونوعية الخشب ومقاساته وطرق تركيبه وتثبيته ليسهل استعمالها.

ورغم انتهاء حقبة استعمال الرحى إلا أن ارتباطها بالحياة التقليدية وعلاقة المرأة العربية بها وما خلفته هذه العلاقة من إبداعات فنية، شعرا وغناء، جعلها من الأدوات التراثية وثيقة الارتباط بالموروث الشعبي العربي ورمزا للأصالة ومصدرا لاستكشاف مراحل تطور ابتكارات الإنسان في صنع الأدوات التي تمكنه من تسهيل حياته وتوفير الغذاء بجهد أقل. وهي اليوم قطعة أثرية تتزيّن بها المتاحف العربية لتوثق من خلالها مراحل تاريخية بعينها لكنها ستظل حاضرة في المخيال الشعبي بصور متعددة وفي الأدبيات والفنون العربية المعاصرة.

12