الرئيس التونسي تحت مجهر "سنة أولى حكم"

تونس – جاء انتخاب قيس سعيد رئيسا لتونس قبل عام، وتحديدا في 14 أكتوبر 2019، مفاجأة للأوساط السياسية واعتبرها متابعون “زلزالا سياسيا” ضرب المنظومة الحزبية السائدة في البلاد.
وترك الأستاذ الجامعي، ذو الـ 62 عاما، المتخصص في القانون الدستوري، مدارج الجامعة والمجال الأكاديمي، ليجلس على كرسي قصر قرطاج، مقتحما عالم السياسة، من دون إرث سياسي ولا انتماء حزبي، مقدما خلال حملته الانتخابية لسنة 2019، وعودا لناخبيه، لعل أبرزها الحفاظ على دولة قائمة على العدل والمساواة والسيادة الوطنية.
وبعد مرور سنة من الفترة الرئاسية التي تمتد خمسة أعوام، بدت خطوات سعيد الأولى تتضح للمتابعين.
فكر المؤامرة
بدا سعيد منذ الأشهر الأولى لرئاسته في موقع المتوعد، ولعل خير دليل على ذلك هي زيارته لمدينة سيدي بوزيد، مهد الثورة التونسية، لإحياء الذكرى التاسعة للثورة التي أطاحت، عام 2011، بنظام الرئيس آنذاك، زين العابدين بن علي (1987: 2011).
وأطلق سعيد خلال هذه الزيارة، ديسبمر الماضي، عبارة شهيرة، وهي أن “إرادة الشعب ومطالبه ستتحقق، رغم مناورات المناورين والمؤامرات التي تحاك في الظلام”.
واشتدت لهجة الوعيد والتهديد، قبل أشهر، اذ لم تخل خطابات سعيد، في مناسبات عدة، من تأكيد على أنه “سيواجه كل من يتآمر على تونس”.
وهي خطابات يرى مراقبون أن كلماتها المشفرة تمثل مفاتيح لمعجم المؤامرة على تونس، فلم يكشف سعيد عن المقصود، وهو ما جعله محل انتقادات كبيرة داخل الأوساط المحلية.
علاقته برئاسة الحكومة
بدت علاقة سعيد بالأحزاب التونسية مستقرة طيلة الأشهر الأولى لحكمه، ما عدى علاقته بحركة النهضة الإسلامية، فيما يتعلّق بكيفية التعاطي مع ملفّ أزمة الجارة ليبيا، وإصرار زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي على دعم إخوان ليبيا وحكومة الوفاق متجاهلا منصبه على رأس البرلمان التونسي، لتتعمق الخلافات إثر تول يرئيس الحكومة السابقة إلياس الفخفاخ لمنصبه، وحالة التناغم التي بدت بينه وبين سعيد والتي أثارت مخاوف لدى الحركة من زعزعة نفوذها.
إلا أنها شهدت فتورا في الفترة الأخيرة خاصة مع ما رافق تشكيل حكومة هشام المشيشي الراهنة من تجاذبات، إذ لم يعتمد سعيد مقترحات الأحزاب السياسية، ليعين بقرار انفرادي وزير الداخلية السابق (المشيشي) على رأس الحكومة الجديدة، خلفا لإلياس الفخفاخ، الذّي طالته شبهات فساد.
وسرعان ما بدت للمتابعين خلافات بين سعيد والمشيشي، ازدادت تفاقما مع تلميح رئيس الحكومة إلى إجراء تعيينات لمستشارين منتمين للنظام السابق (“بن علي”)، وهو ما قوبل برفض شديد من سعيد.
وقال سعيد، وفق بيان للرئاسة، إن “هناك محاكم تصدر أحكامها باسم الشعب، وإذا كان صاحب السيادة (الشعب) أدان منظومة كاملة (نظام “بن علي”) بمؤسساتها وأشخاصها وثار عليها وسقط الشهداء والجرحي من أجل إزاحتهم، فلا مجال لأن يعودوا اليوم”.
وبرزت ملامح هذا الخلاف أكثر بعد أن قرر المشيشي سحب وليد الزيدي من التشكيلة الحكومية كوزير للثقافة، بينما استقبله سعيد في قصر قرطاج، معربا عن دعمه لتوليه حقيبة الثقافة.
ويرى مراقبون أن هذا التوتر بين الرجلين يبدو مختلفا عن التوترات التي شهدتها العلاقة بينهما سابقا، ذلك أن تصريحات سعيد تنم عن ارتفاع سقف الخلافات بينهما ليشمل مسائل أخرى أكثر عمقا تتمحور بالأساس حول السيطرة على الإمساك الفعلي بالسلطة التنفيذية.
وتتداخل في هذه الخلافات، حسابات أخرى مرتبطة بموازين القوى في علاقة بالصراع الدائر منذ فترة بين الرئيس قيس سعيد، وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي بصفته رئيسا للبرلمان، وهو صراع عمقته التحركات الأخيرة للمشيشي التي اقترب فيها كثيرا من الغنوشي وحليفه نبيل القروي على حساب قيس سعيد.
فلسطين والتطبيع
أعلن سعيد منذ الأيام الأولى لحملته الانتخابية دعمه المطلق للقضية الفلسطينية، وأنه لن يتوانى عن مساندة الشعب الفلسطيني في مختلف المحافل، وسيعمل في الخارج من أجل القضايا العادلة.
وبلغ صدى تصريحاته عن فلسطين دولا أخرى في منطقة الشرق الأوسط، ولقيت إشادة من الفلسطينيين، الذين عبروا عن إعجابهم بموقفه من قضيتهم.
واعتبر سعيد في تصريحات نارية أن “التطبيع مع إسرائيل خيانة عظمى”، وأن “العرب فكرهم مهزوم”، و”ما يحدث في فلسطين هو مظلمة القرن. الحق الفلسطيني لا يسقط بالتقادم. من له علاقة مع الكيان الصهيوني هو خائن”.
هذه التصريحات تزامنت مع إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في يناير الماضي، ما يعرف إعلاميا وشعبيا بـ”صفقة القرن”.
وظلّ موقف سعيد ثابتا، إلى أن وقعت الإمارات والبحرين، في واشنطن منتصف سبتمبر الماضي، اتفاقيتين لتطبيع علاقتهما مع إسرائيل.
وكان تصريح سعيد بخصوص هذا التطور هادئا محترما للشؤون الداخلية للدول، إذ قال حينها “لا نتدخل في اختيارات بعض الدول ولا نتعرض لها، ونحن نحترم إرادة الدول، فهي حرة في اختياراتها وأمام شعوبها، ولكن لنا أيضا مواقفنا التي نعبر عنها بكل حرية، بعيدا عن إصدار بيانات للتنديد بهذا الموقف أو ذاك”.
وقطع سعيد الطريق أمام الإسلاميين وأطراف أخرى في تونس سعت إلى تحقيق أهداف سياسية والمزايدة على الموقف التونسي في شأن تطبيع دولة الإمارات مع إسرائيل.
الحل الليبي الليبي
كانت الأوضاع في الجارة ليبيا، أولوية للدبلوماسية التونسية طيلة السنوات الماضية.
وتعتبر تونس أن أمنها من أمن ليبيا، وقامت بعدة مبادرات لجمع الفرقاء الليبيين إلى طاولة الحوار، بحثا عن حل سياسي. فمنذ سنوات، يعاني البلد الغني بالنفط من نزاع تدعمه دول عربية وغربية.
ويرى سعيّد أن “الحل في ليبيا يجب أن ينبع من الأطراف الليبية”، معبرا عن “رفضه أي تدخل في هذا البلد من أي طرف كان”.
وأكد أن موقف تونس هو إيجاد تسوية سياسية شاملة لهذه الأزمة تحفظ وحدة ليبيا وسيادتها، في إطار حوار ليبي ليبي جامع، تحت مظلة الأمم المتحدة، ولكن مواقف سعيد من الملف الليبي بدأت تحمل تأويلات وتفسر بعدة طرق، خاصة حين بادر بجمع أكثر من 35 من زعماء القبائل الليبية بقصر قرطاج، في ديسمبر الماضي.
وصرح بأن “السلطة القائمة في ليبيا تقوم على الشرعية الدولية”، لكن “هذه الشرعية لا يمكن أن تستمر، لأنها شرعية مؤقتة، ويجب أن تحل محلها شرعية جديدة تنبع من إرادة الشعب الليبي”.
هذا التصريح كان خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لفرنسا، في يونيو الماضي، وأثار جدلا سياسيا كبيرا في تونس وليبيا.
واعتبر البعض أن طرح سعيد أن تحل شرعية جديدة محل الشرعية الراهنة، وهي حكومة الوفاق الوطني، يمثل خروجا عن الموقف التونسي الثابت منذ سنوات، والداعي إلى احترام الشرعية الدولية، وما انبثق عنها من اتفاقات.
ويلقى تعاطي الرئيس التونسي مع الملف الليبي إعجاب جهات حزبية كثيرة، ما عدى الأطراف الإسلامية الداعمة لحكومة الوفاق، اذ اعتبر رئيس الكتلة الديمقراطية والقيادي في حزب التيار الديمقراطي محمد عمار في تصريح محليّ أن التحركات الأخيرة لقيس سعيد فيما يتعلق بالملف الليبي تعتبر جيدة مؤكدا أنه إذا ما تمت حلحلة هذا الملف باستقبال كل الفرقاء في تونس سيعتبر إنجازا كبيرا للدبلوماسية التونسية وسيعود بالخير الكثير على تونس في ما يتعلق بالمسألتين الأمنية والاقتصادية.
وتستضيف تونس مطلع نوفمبر المقبل برعاية أممية الاجتماع المباشر الأول لملتقى الحوار السياسي الليبي الشامل.
وكان سعيد قد دعا إلى أن يكون لتونس حضورا دوليا مميزا، وأكد في مناسبات على أن أهمية أن تصبح بلاده قوة مبادرة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
وأطلق سعيد، في أبريل الماضي، مبادرة تقضي بالوقف الفوري لإطلاق النار والنزاعات في العالم، مشددا في مبادرته على ضرورة تضافر الجهود لمواجهة التحديات التي تفرضها جائحة “كورونا”، بكل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
زيارات خارجية
لم تكن زيارات سعيد الخارجية غزيرة جراء ما فرضته جائحة “كورونا”، على مدار شهور، من إغلاق للحدود وتعليق لرحلات الطيران.
زار سعيد الجزائر كأول محطة في زياراته الخارجية، في مؤشر على قوة العلاقة بين الجارتين، ووفاءً بالتزام تعهد به عند أدائه اليمين الدستورية، في 23 أكتوبر 2019.
وزار فرنسا، في يونيو الماضي، وأعلن ماكرون خلال هذه الزيارة عن قرض فرنسي بقيمة 350 مليون يورو، ضمن التزام باريس بتقديم معونة لتونس تبلغ 1.7 مليار يورو حتى عام 2021.
وتناولت هذه الزيارة أيضا الملف الليبي ومطالبة الطرفين المتنازعين بوقف فوري لإطلاق النار والالتزام بقرارات الأمم المتحدة والبدء في إعادة إعمار ليبيا.
ويرى سياسيون تحركات سعيد خطوات إيجابية رغم قلتها في ظلّ أزمة كورونا العالمية، اذ اعتبر أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي أن سعيد يسير في الاتجاه الصحيح معبرا في الوقت نفسه عن أمله في أن يعزز فريقه بمستشارين من ذوي الكفاءة ويعزز مشاوراته مع جميع الأطراف وتلعب الديلوماسية التونسية دورها في إخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية والمساهمة بشكل فعال في الحوار الليبي الليبي وإخراج ليبيا من أزمتها حتى يكون لتونس دور كبير في إعادة إعمارها.