الذكاء الاصطناعي يهدد بعصر جديد من الصراعات الدولية

التقنيات الذكية ستجعل النزاعات أشد تدميرا وصعبة الاحتواء.
الأربعاء 2024/06/12
سباق تحكم محموم

واشنطن - فرضت تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته نفسها بشدة على العالم خلال العامين الأخيرين، في ظل التطورات المتلاحقة التي حققتها هذه التكنولوجيا وفتحت الباب أمام تغييرات لا تعد ولا تحصى في حياتنا اليومية. فالذكاء الاصطناعي سيغير طريقة خدمة الحكومات لمواطنيها وطريقة قيادتنا للسيارات أو قيادة السيارات بنا، وطريقة أحلامنا وطريقة تشخيص الأطباء للأمراض وعلاجها وحتى طريقة إعداد الطلبة للأبحاث وكتابة المقالات الدراسية.

وفي مواجهة كل هذه التغيرات المرتقبة يطرح المحلل الإستراتيجي الأميركي هال براندز في تحليل نشرته وكالة بلومبيرغ للأنباء عددا من الأسئلة الجوهرية؛ منها: هل سيكون الذكاء الاصطناعي ثوريا؟ وهل سيغير ميزان القوة العالمي؟ وهل سيسمح للأنظمة المستبدة بحكم العالم؟ وهل سيجعل الحرب أسرع وأشد ضراوة وخارجة عن السيطرة؟ باختصار هل سيغير الذكاء الاصطناعي إيقاع تطورات الشؤون العالمية؟

ومن السابق لأوانه تقديم إجابة قاطعة على هذه الأسئلة. فتأثيرات الذكاء الاصطناعي ستتوقف في النهاية على قرارات القادة والدول، وأحيانا تتخذ التكنولوجيا مسارا معاكسا بشكل مفاجئ. وحتى في ظل قلقنا وانبهارنا بالإصدار الجديد من منصة الذكاء الاصطناعي الأشهر تشات جي بي تي فإنه يتوجب علينا أن نواجه الأسئلة الأعمق حول الشؤون الدولية في عصر الذكاء الاصطناعي.

وعلينا التفكير في الاحتمال المفاجئ وهو أنه ربما لا يغير الذكاء الاصطناعي العالم بنفس القدر الذي نتوقعه، لكنْ هل سيجعل الحرب خارجة عن السيطرة؟ ويقول براندز أستاذ كرسي هنري كيسنجر في مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز الأميركية "إن الذكاء الاصطناعي سيجعل الصراعات أشد تدميرا وصعبة الاحتواء".

ويطرح المحللون تصورا لمستقبل تستطيع فيه الآلة قيادة الطائرات المقاتلة أفضل من الإنسان وتستطيع الهجمات الإلكترونية الآلية تدمير شبكات معلومات العدو وتؤدي الخوارزميات المتقدمة القوية إلى تسريع عمليات اتخاذ القرار العسكري. ويحذر البعض من أن عملية اتخاذ القرار بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي يمكن أن تؤدي إلى تصعيد سريع، بما في ذلك التصعيد النووي، بصورة تجعل صناع القرار أنفسهم مندهشين مما يحدث. باختصار إذا كانت خطط الحرب وجداول تسيير القطارات سببا في الحرب العالمية الأولى فقد يصبح الذكاء الاصطناعي سببا في الحرب العالمية الثالثة.

هال براندز: هل سيغير الذكاء الاصطناعي إيقاع تطورات الشؤون العالمية؟
هال براندز: هل سيغير الذكاء الاصطناعي إيقاع تطورات الشؤون العالمية؟

وسيغير الذكاء الاصطناعي الحرب بالطبع، بدءا من إتاحة الصيانة الاستباقية للمعدات وحتى زيادة دقة الاستهداف بصورة مذهلة. وقد توصلت لجنة الأمن القومي المعنية بالذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة عام 2021 إلى أن العالم سيعيش “حقبة جديدة من الصراع” يهيمن عليها الجانب الذي يتقن “طرقا جديدة للحرب”. ورغم ذلك فإن تاريخ الحروب عبر العصور يقول إن الابتكارات تجعل الحروب أسرع وأشد ضراوة، لكنها لا تجعل التصعيد خارجا عن السيطرة.

وقد ناقشت الولايات المتحدة والصين ضرورة ألا تكون عمليات القيادة والسيطرة على الترسانة النووية لدى البلدين خاضعة للأنظمة الآلية، وهو التعهد الذي قطعته الولايات المتحدة على نفسها بشكل مستقل لسبب بسيط وهو أن الدول لا ترغب في التأكيد على التخلي عن السيطرة على أسلحة يمكن أن يمثل خطرها تهديدا وجوديا للدولة نفسها في حال انطلاقها.

والحقيقة هي أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقلل مخاطر التصعيد العالمي من خلال مساعدة صناع القرار على تجاوز الغموض المحيط بأي أزمة أو صراع. وتعتقد وزارة الدفاع الأميركية أن الأدوات الاستخباراتية والتحليلية المدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تساعد البشر على تدقيق المعلومات المربكة أو المجزأة المتعلقة باستعدادات العدو للحرب، أو ما إذا كان هناك بالفعل هجوم صاروخي مخيف.

وهذا ليس ضربا من الخيال العلمي، لأن الولايات المتحدة استفادت من الذكاء الاصطناعي في اكتشاف نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لغزو أوكرانيا عام 2022، ومعنى هذا أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يخفف حدة التصعيد بنفس القدر الذي يمكن أن يساهم فيه في زيادتها. وهذا الأمر ينقلنا إلى السؤال الثاني المتعلق بمدى استفادة الدول المستبدة من الذكاء الاصطناعي لفرض هيمنتها على الشؤون الدولية.

ويحذر محللون مثل يوفال نواه هراري من أن الذكاء الاصطناعي سيقلل كلفة الاستبداد ويزيد من عائداته. فأجهزة الاستخبارات في الدول المستبدة التي تمتلك أجهزة ذكاء اصطناعي قوية لن تحتاج إلى قوة بشرية كبيرة لجمع وتحليل كميات ضخمة من البيانات عن شعوبها، وهو ما يتيح لها على سبيل المثال رسم خرائط دقيقة لشبكات الاحتجاجات وتفكيكها. كما يمكنها استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في التعرف على ملامح الوجه في مراقبة مواطنيها والسيطرة عليهم. وكذلك يمكنها استخدام التكنولوجيا في اختلاق مواد مزيفة ونشرها بهدف تشويه سمعة معارضيها.

◙ العالم يسير نحو مستقبل تستطيع فيه الآلة قيادة المقاتلات وتؤدي الخوارزميات إلى تسريع اتخاذ القرار العسكري

وفي الوقت نفسه تضيّق بعض التكنولوجيات الفجوة بين المجتمعات الأكثر تقدما ونظيرتها الأشد تخلفا. وعلى سبيل المثال سمحت لدولة متخلفة نسبيا مثل كوريا الجنوبية بتعويض التفوق الاقتصادي والعسكري الذي تمتلكه قوى عظمى مثل الولايات المتحدة وحلفائها.

ولذلك يشعر المسؤولون الأميركيون بالقلق من استخدام الجماعات الإرهابية لأنظمة الذكاء الاصطناعي من أجل تطوير أسلحة بيولوجية. كما يمكن لدول معادية مثل إيران استخدام الذكاء الاصطناعي لتنسيق هجوم متزامن بالطائرات المسيرة ضد السفن الأميركية في الخليج العربي.

ومع ذلك يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي سيظل لعبة الدول الغنية. فتطوير تقنيات ذكاء اصطناعي بالغة التقدم عملية باهظة الكلفة؛ ذلك أن تدريب نماذج اللغة الضخمة (وهي المكون الأساسي لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي) يحتاج إلى استثمارات هائلة وأعداد كبيرة من العلماء والمهندسين البارعين، وكميات مهولة من الكهرباء.

وتشير بعض التقديرات إلى أن كلفة البنية التحتية التي تدعم منصة المحادثة الآلية “بنغ أيه آي” التابعة لإمبراطورية البرمجيات والتكنولوجيا الأميركية مايكروسوفت تبلغ 4 مليارات دولار. معنى هذا أنه يمكن لأي شخص تقريبا أن يكون من مستخدمي الذكاء الاصطناعي، لكن لكي يكون منتجا له فهو يحتاج موارد وفيرة. ولهذا فإن الدول الغنية متوسطة القوة تستطيع أن تحقق تقدما كبيرا في هذا المجال. كما أن الولايات المتحدة بما لديها من شركات تكنولوجيا عملاقة مازالت هي الرائدة فيه.

وعن مدى تأثير الذكاء الاصطناعي على توازن القوى في العالم يقول المحللون في مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة في جامعة جورج تاون الأميركية إن الولايات المتحدة وحلفاءها يستطيعون التفوق على الصين في مجال التكنولوجيا إذا وحدوا جهودهم، لذلك فإن أمل الصين هو أن ينقسم العالم المتقدم بخصوص تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

والحقيقة أن الخلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا في هذا المجال لا تدعو إلى التفاؤل. كما أن هناك دولا ديمقراطية أخرى مثل الهند تفضل التحرك المستقل في مجال التكنولوجيا وخاصة الذكاء الاصطناعي. ورغم ذلك يرى هال براندز أنه من السابق لأوانه القول إن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى تفكك تحالفات الولايات المتحدة الدولية.

وفي النهاية يقول براندز، الباحث الزميل في معهد أميركان إنتربرايز والمؤلف المشارك في كتاب “منطقة الخطر: الصراع القادم مع الصين” وعضو مجلس الشؤون الخارجية التابع لوزارة الخارجية الأميركية، “إننا لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل، وقد يصل الذكاء الاصطناعي إلى طريق مسدود أو يتسارع تطوره بما يتجاوز توقعات أي شخص. ولكن قبل كل شيء فإن التكنولوجيا ليست قوة مستقلة. وأشكال تطور هذه التكنولوجيا وغيرها، وكذلك تأثيراتها، تتحدد من خلال القرارات التي ستتخذ في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم".

6