الديمقراطية آخر اهتمامات بايدن.. التكنولوجيا هي الهدف

منذ أن أعلن في مطلع عام 2023 عن طرح “تشات جي بي تي” توالت التحذيرات والدعوات للتصدي لمخاطر يشكلها الذكاء الاصطناعي التوليدي على الأمن القومي والاقتصادي والاجتماعي، ولم ينتظر السياسيون وقادة الدول طويلا للمشاركة في هذه الدعوات.
وأغلب التحذيرات التي يطلقها خبراء ومختصون اجتماعيون تتعلق بالجانب الأخلاقي. فهناك مخاوف من الرقابة ومن التمييز على أساس عنصري ومخاوف من أن تحل الآلة مكان البشر.
مخاوف مثل هذه قد تشغل الجمعيات الحقوقية والمدنية، وقد تشغلنا نحن كأفراد. أما مخاوف السياسيين والحكومات والشركات الكبرى فهي مخاوف من نوع آخر.
قبل 15 عاما، قال عالم الرياضيات وخبير الأسواق المالية البريطاني كلايف هومبي إن “البيانات هي نفط العالم الجديد”. فإذا كانت مقولة “المعرفة قوة” صحيحة في الأمس، فإن مقولة “البيانات قوة” هي ما ينطبق على عالم اليوم؛ من يتحكم في تدفق البيانات عبر العالم اليوم هو المنتصر في أيّ مواجهة مقبلة.
وفي الوقت الذي فرضت فيه الشبكة العنكبوتية نفسها أداة خارقة لتبادل المعلومات، أسست أيضا لنوع غير مسبوق من الصدام بين القوى العالمية، سرعان ما تطوّر هذا الصراع إلى صدام حضاري واقتصادي، وفي المحصلة صدام سياسي عنوانه محاولة الولايات المتحدة الهيمنة على ثورة المعلومات.
قلق الولايات المتحدة اليوم لا علاقة له بصناعة السيارات أو التحكم بسعر النفط، حتى التكنولوجيا النووية تضاءل الاهتمام بها، وتحولت إلى لعبة تمارسها واشنطن للضغط على دول “مارقة” صغيرة.
قد تنجح واشنطن في خداع العالم، ولكنها لن تنجح في احتكار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، لسبب بسيط أن نفط العالم الجديد (البيانات) كما الهواء لا يحتكره أحد
لم يقلق الولايات المتحدة صعود صناعة السيارات في كوريا الجنوبية، ولا صناعة السفن، ولم تقلقها محاولات إيران امتلاك السلاح النووي لذلك دخلت معها في لعبة ابتزاز سياسي، يظن معها أن واشنطن غير مكترثة بالوصول إلى حل.
خلال خمسين عاما لم تكترث واشنطن لأمر الديمقراطية في الصين واستخدمتها ورشة كبيرة لصناعاتها. وبعد أن ظن العالم أن الحرب الباردة انتهت عادت للظهور بشكل أقوى. لم يكن ذلك بسبب طيش الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وحماقاته كما أرادوا أن يفهمونا.
إذا أردت أن تعرف السبب فتش عن المعلومات، نفط العالم الجديد. قد يختلف جو بايدن الرئيس الديمقراطي الحالي للولايات المتحدة عن الرئيس الجمهوري السابق بكل شيء، ولكنه لا يختلف عنه في موقفه من الصين.
في السنوات الأخيرة، قادت الخوارزميات التطور على مستوى العالم، وتولدت عنها مجموعة من الابتكارات شكلت البيئة الرقمية لثورة صناعية رابعة.. وخامسة.
بدأ العالم يدرك مدى عمق ثورة الذكاء الاصطناعي، الذي ستساهم تقنياته لاحقا في حدوث موجات من التقدم في البنية التحتية الأساسية والتجارة والنقل والصحة والتعليم والأسواق المالية وإنتاج الأغذية والاستدامة البيئية.
ومن شأن النجاح في اعتماد الذكاء الاصطناعي أن يدفع الاقتصادات إلى الأمام، ويعيد تشكيل المجتمعات ويحدد البلدان التي ستضع القواعد للقرن القادم.
قبل أيام قال سام ألتمان، الذي طورت شركته “تشات جي بي تي”، إن ما شاهدناه حتى الآن من تطور في الذكاء الاصطناعي التوليدي يعتبر بدائيا مقارنة بما تخبّئه لنا الأشهر القادمة.
ومنذ يومين فقط تحدث رئيس أكاديمية العلوم الروسية غينادي كراسنيكوف عن شبكات عصبونية أقوى بـ100 ألف مرة من الشبكات الحالية، وقال إن الأعوام العشرة القادمة ستشهد نموا وصفه بالمذهل لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
سنشهد في الأعوام العشرة المقبلة تطبيق الذكاء الاصطناعي في كافة المجالات. وستظهر أنظمة جديدة وعلم رياضيات جديد ومعالجات إلكترونية جديدة وأنواع جديدة من البيانات. فمن يسيطر على ثورة المعلومات، يستطيع أن يسيطر على العالم، هذا الحكم الذي صدر في السابق عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سرعان ما التقطه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فاتحا معركة مع الصين للسيطرة على التكنولوجيا الرقمية. ولم ينه خروجه من البيت الأبيض سعي الولايات المتحدة المحموم للسيطرة على ثورة المعلومات.
الرئيس بايدن يركز اهتمامه على تحدّين اثنين، هما الصين وروسيا، ونقطة الخلاف ليست أوكرانيا وتايوان فقط، بل هي الاستحواذ على السبق في تكنولوجيا المعلومات والسيطرة عليها
ليس صدفة أن يختار بايدن هذا الوقت بالذات ليقول إن الرئيس الصيني دكتاتور مغامر لإغضاب بكين. هل يريدنا بايدن أن نصدق الآن أنه قلق على الديمقراطية في الصين، بعد تقارب معها دام لعقود.
الديمقراطية آخر اهتمامات الإدارة الأميركية سواء كانت إدارة جمهورية أو ديمقراطية. ما يشغل الإدارة الأميركية هو السيطرة على التكنولوجيا الرقمية وفي مقدمتها البيانات والذكاء الاصطناعي.
وإذا كانت الخطوات الأخيرة التي اتخذها بايدن أريد منها الإيحاء بأن إدارته مهتمة بحماية حقوق الأميركيين وسلامتهم ومعالجة التحيز والمعلومات المضللة والتأكد من أن أنظمة الذكاء الصناعي آمنة قبل إطلاقها، كما قال الثلاثاء الماضي، إلا أن كلماته لن تنجح في حجب الحقيقة، وهي التصدي لمخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن القومي والاقتصاد.
وكان بايدن قد ناقش في الآونة الأخيرة قضية الذكاء الاصطناعي مع قادة آخرين، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الذي ستعقد حكومته هذا العام أول قمة عالمية بخصوص سلامة هذه التقنية.
ومن المتوقع أن يناقش بايدن الموضوع مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال زيارة مخطط لها إلى الولايات المتحدة.
الرئيس بايدن يركز اهتمامه على تحدّين اثنين، هما الصين وروسيا، ونقطة الخلاف ليست أوكرانيا وتايوان فقط، بل هي الاستحواذ على السبق في تكنولوجيا المعلومات والسيطرة عليها.
ويعمل بايدن مدفوعا بتقرير صدر عن لجنة الأمن القومي الأميركي للذكاء الاصطناعي، وهي هيئة اتحادية تم إنشاؤها لمراجعة والتوصية بطرق استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض الأمن القومي. ويوصي التقرير باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحديث خطط الدفاع الأميركية، والتنبؤ بالتهديدات المستقبلية، وردع الخصوم وكسب الحروب نظرا إلى أنه سيتم “دمج الذكاء الاصطناعي في جميع التقنيات المستقبلية تقريبا”، ومن السهل إدراك أن تهديدات الأمن القومي والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون حافزا للتغييرات الضرورية لمتطلبات الدفاع وعمليات توفير الموارد.
ستعمل الإدارة الأميركية على إيهامنا بأن قلقها منصبّ على الحريات والدفاع عن الديمقراطية، وذلك لننسى جوهر صراعها مع الصين ومن ورائها روسيا، بينما جهدها الحقيقي منصبّ على احتكار التكنولوجيا الجديدة.
قد تنجح واشنطن في خداع العالم، ولكنها لن تنجح في احتكار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، لسبب بسيط أن نفط العالم الجديد (البيانات) كما الهواء لا يحتكره أحد.