الدولة الحديثة ومأزق الإسلام السياسي

الإسلام السياسي يصرّ على قراءاته المغلوطة للدين والمجتمع والدولة، وهو بذلك يقصي نفسه من التاريخ عبر تقديس غير المقدّس في نصوص القرآن والحديث. فالتطورات المتسارعة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لا تفي بنظام سياسي مفيد لكل الأزمنة والأمكنة، وهذا لم يوجد في التاريخ ولن يوجد، لأن الكون جوهر سيال ولا يعقل أن يفرض الله علينا أن نمتثل في كل زمان ومكان لقواعد سياسية لا تصلح لكل زمان ومكان.
الأربعاء 2016/06/29
الإسلام السياسي يمضي عكس السير في الدين والسياسة والمجتمع

الصراع بدأ في السياسة وليس في الدين، ومن هذا المنطلق يجب أن تكون كل الأجوبة سياسية وليست دينية، ولا توجد نظرية للحكم في الإسلام بالمعنى المطلق والمقدس للكلمة، بل هناك اجتهادات شتى وكذلك نماذج مورست بالقوة والغلبة عبر حقب التاريخ، وفي مختلف البقاع والبلدان الإسلامية. فالإمامة كما نعلم، جعلتها السنة بابا من فروع الفقه، أمّا الشيعة فقد اعتبروها بابا من أصول الدين، وهذا اختلاف بيّن وكبير، إلا أن المهم بالنسبة إلينا “لا مطمع في وجدان نص من كتاب الله في تفاصيل الإمامة”، كما يقول الإمام الجويني.

التفريق واجب بين الفقه الإسلامي بوصفه فهما بشريا من جهة والنصوص القرآنية والنبوية من المؤسسة له من جهة أخرى، وبناء عليه، فإن المسألة السياسية مسألة ظنية اجتهادية بالضرورة، ولا يمكن أن ينسحب عليها تقديس ما، والسياسات المرسومة لا يمكن أن تزعم أي وصاية دينية، كما لا يمكن اعتبار اختلافها في ذات الوقت مدعاة لإقصاء وتكفير الآخرين..

سفيان الثوري كان يردّد “لا تقولوا اختلف الفقهاء، وإنما قولوا توسع الفقهاء”، فدين الإسلام يتسع ولا يضيق للكون والحياة، والحاكم في المجتمع الإسلامي حاكم مدني، ليس له سلطان ولا وصاية على إيمان الناس. ولذلك لا نرى سبيلا إلى فك الاحتقان وتداخل السياسي بالديني، إلا بالفصل بين مفهوم الأمة كجماعة والدولة كمجتمع، أي أن تقبل أن يشاركك الوطن من لا يتكلم بلسانك، ولا يتدين بدينك أو مذهبك. إن ما يشترطه المجتمع الحديث هو احترام القانون وحرية الآخرين، فالدولة في أوروبا لا تطالب المسلمين بتغيير دينهم أو عاداتهم، بل الامتثال للقانون كسائر المواطنين. ومن ثم، فإن الدولة الحديثة، هي بمثابة قانون عام وآلية تنظيم، لا تنادي بأفضلية أحد الأديان، لكن لا يعني هذا دعوتها إلى إقصاء الدين.

مجتمعات العالم العربي اليوم متعددة ومتباينة، بالإضافة إلى أن هناك أقليات عرقية ولغوية وثقافية.. لذلك فالإرادة العامة يجب أن تكون سليلة إرادة مشتركة بين المواطنين على اختلاف مللهم ونحلهم، يرعاها دستور يخضع لناموس الحياة ويتطور بتطور احتياجاتهم.

وقد يقال “إنما المؤمنون إخوة” ولا حدود إقليمية ولا إثنية لإخاء الدين في منظور الجماعات الإسلامية، لكن الحال يختلف عندما لا نكون “إخوة في الدين” ولسنا “إخوة في اللغة”، ولا نتبع نفس المذهب، فلا يمكن أن نفرض العربية على غير العربي، ولو تدين بدين الإسلام، وأوطاننا اليوم ليست بداخلها أجناس واحدة ودين واحد وثقافة واحدة ولغة واحدة.. فهذه مجرد مقومات الجماعة بالمفهوم التاريخي والأنتروبولوجي لتكونها، أما الدولة الحديثة فلا تقوم على تلك الأسس التي قامت عليها الدولة القروسطية، فهي تضمن حرية الاعتقاد للجميع من دون مصادرة حق أي مذهب ولا أي لغة ولا أي جنس أو أقلية.. وهي بذلك تضمن وحدتها وتمنع تفككها.

وبالعودة إلى قراءة مختلفة في التراث الإسلامي، فإن أبا ذر الغفاري، مثلا، دخل على معاوية محتجا على تسمية بيت المال “مال الله” قائلا، إنه “مال المسلمين”. فتساءل معاوية: وما الفرق بين “مال الله” و”مال المسلمين؟” فأجابه أبوذر “إن قلت مال الله” فلا يحاسبك أحد عليه.

سفيان الثوري كان يردد "لا تقولوا اختلف الفقهاء، وإنما قولوا توسع الفقهاء"، فدين الإسلام يتسع ولا يضيق للكون والحياة

والقوانين التي تتعلق بالحرب التي تخضع للرؤية الميدانية وعلاقات القوة المرتبطة بالتخطيط، لا ترتبط بالدين إلا من حيث القواعد الأخلاقية التي تنظم سلوك المسلمين كجماعة ومنظورهم للكون والبشر، أي أنّ الدول الحديثة في عصر العولمة لا تقيم تمييزا بين مواطنيها على أسس اللغة والدين والإثنية أو السلالة العرقية، بقدر ما تطالبهم باحترام العقد الاجتماعي الذي يربطهم ببعضهم البعض والمتمثل في الدستور.

إن وضع السياسة سيفا على الشريعة أو وضع الشريعة سيفا على السياسة، مكلف وعديم النفع اليوم، أي أن السلطة القيمة على الشأن العمومي، لا ينبغي لها أن تدعي أنها سلطة دينية، فهي مسؤولة عن تطبيق برنامج سياسي يفترض فيه أن يصل أصحابه إلى الحكم عن طريق شرعية وطنية تاريخية أو بالتصويت الحر.

وبالمقابل، ليست هناك وصاية في الدين الإسلامي بالمفهوم الكنسي الهرمي، أي ليس عندنا “رجال الدين” بل “رجال دين” (من دون تعريف)، منوطون فقط بتفسير أحكام الشريعة لثبات عقيدة الجماعة واستمرارها بين الأجيال فحسب. أما على صعيد المنطق، يمكن رد الارتباط بين الدين والسياسة من خلال مقاربة علم اجتماع الأديان.

الماهية العقائدية للأديان الثلاثة التوحيدية واحدة، فالله واحد أحد في كل منها، وليس هناك من حجة تقول إن الله أمر ببناء الدولة على أسس فريضة دينية ينبغي أن تكون للمسلم دون المسيحي أو اليهودي.. وإلاّ كان قد أمر المسيحي واليهودي ـ قبل المسلم ـ بأن يقيموا نفس تلك الدول الإلهية على نفس الأسس، ومن المعروف أن المسيحية والسياسة مثلا، غير مرتبطتين “فلله ما لله، ولقيصر ما لقيصر” كما يقال عادة، ولم تقر المسيحية بنظام دون آخر في السلطة، وما ينسحب عليها كدين توحيدي، ينسحب على الإسلام وعلى اليهودية، لأنه لا يعقل أن تكون الماهية العقائدية للديانات الثلاثة مشتركة وتختلف في العلاقة مع السياسة. وواقع الحال يقول، لم ترتبط قط المسيحية ولا اليهودية بشكل ما وفي زمن ما بنظام سياسي يساوي بين الماهية العقائدية لكليهما، وبين شكل الدولة الإلهية المفترضة على الأرض، لذلك فإن الله أيضا لم يفرض على الإسلام شكلا سياسيا بعينه، وإلا كيف يرتبط الإسلام لوحده بالسياسة من دون سائر الديانات التوحيدية الأخرى؟

فالطبيعة الإلهية واحدة في جميع الديانات، ولذلك فإن ارتباط السياسة بالإسلام ـ كما تزعمه حركات الإسلام السياسي ـ لا يمكن اشتقاقه من ماهية الله، وإنكاره في المسيحية واليهودية، وإذا لم ننكره، فكيف نفسر أن كل من الديانات الثلاث أفرزت أنظمة سياسية ودولا مختلفة عبر التاريخ داخل كل دين بذاته؟ وإذا لم ننكر ذلك، فكيف يختص الإسلام من دون غيره بربط أحادي؟

13