الدولة الإسلامية تنزل تحت الأرض وتترك الذئاب المنفردة فوقها

أجمع مراقبون على توصيف العمليات الإرهابية الفردية التي شنت في أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط بأنها تعكس شيوع الأفكار المتطرفة وقدرتها على النفاذ والاستقطاب، ولا تؤكد بالضرورة على وجود ارتباط تنظيمي لها بالجماعات الجهادية.
وأوضح الباحث السوري محمود البازي في دراسة بعنوان “الذئاب المنفردة الملاذ الأخير لداعش”، التي نشرتها مجلة المستقبل العربي الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، استلهام داعش لمنهجية تنظيم القاعدة في العمل الإرهابي، حيث أصدرت مؤخرا مجموعة توجيهات بالإنكليزية للذئاب المنفردة في الدول الغربية تركز فيها على مفاجأة العدو والتخطيط المتروي واعتماد آليات كتشفير الهواتف الذكية والبريد الإلكتروني.
وورد في التوجيهات أن “أي ذئب منفرد، يجب أن يحاول الانصهار والاندماج في المجتمع المحلي، بحيث لا يبدو مثل المسلمين، وهو ما يستوجبه حلق اللحية وارتداء ملابس غربية، وعدم الصلاة في المساجد بشكل منتظم”، ونصحت الإرهابيين المحتملين بعدم إثارة الشبهات “حاولوا أن تكونوا دائما مثل أي سائح عادي أو مسافر تقليدي”.
جذور عنصرية
أغلب الأشخاص المنفذين للعمليات الإرهابية الفردية من الشخصيات العادية التي لا تبعث على الشك في سلوكها
تُعرِّف الدراسة الذئاب المنفردة بأنهم أشخاص يقومون بهجمات بصفة منفردة، من دون أن تربطهم علاقة واضحة بتنظيم ما، وتصدق التسمية على أي شخص يمكن أن يشن هجوما مسلحا بدوافع عقائدية، وهي استراتيجية تعتمدها الجماعات الجهادية، وخصوصا داعش، حيث يقوم الشخص أو الأشخاص بالتخطيط والتنفيذ ضمن إمكاناتهم الذاتية من دون أن يكون لهم ارتباط تنظيمي، ويكون أغلب الأشخاص المنفذين للعمليات الإرهابية الفردية من الشخصيات العادية التي لا تبعث على الشك في سلوكها وحركتها اليومية.
ويشير الباحث إلى أن أصول الذئاب المنفردة عنصرية في الأساس، حيث شاع مصطلح الذئب الوحيد والمنفرد منذ عام 1990، حين ظهرت في الولايات المتحدة أنشطة عنف عنصري تعتمد السرية والعمل تحت الأرض وتهدف إلى القضاء على غير البيض بكل الوسائل المتاحة، والترويج للاغتيال، وتم تنفيذ هجمات عنصرية تقوم بها خلايا فردية وصغيرة ومن دون هرم تنظيمي. ووقعت هجمات مماثلة في أيرلندا والنرويج وفلسطين شنّها متعصبون مسيحيون ويهود لأسباب تتعلق بالكراهية الدينية والسياسية، قبل أن تتبنى الراديكالية الإسلامية فكرة العنف الفردي.
وعن الجذور التاريخية لظاهرة الذئاب المنفردة في التنظيمات الإسلامية، يعتقد الباحث أن المُنظّر الأصولي الجهادي أبومصعب السوري، الذي عمل مدربا في الجهاز العسكري لتنظيم الإخوان السوري قبل انتقاله إلى تنظيم القاعدة، وكان من مقربي بن لادن، وتفرّغ لدراسة كتب ابن تيمية وسيد قطب، هو من ابتكر نظرية الجهاد الفردي عقب التحديات الأمنية التي واجهتها القاعدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 حيث صارت تلاقي صعوبة في تنفيذ عمليات واسعة وصاخبة، فابتدع أبومصعب فكرة اللامركزية الجهادية، حيث يتحوّل التنظيم إلى فكرة عابرة للحدود يعتنقها ويمارسها من أعلن ولاءه للتنظيم، فينفذ عمليات منفردة من دون تكليف في أي مكان في العالم. ولخّص تلك الفكرة بمقولة شهيرة “إن كل مسلم يجب أن يمثل جيشا من رجل واحد”.
ويرى البازي أن داعش أعاد إحياء مفهوم الذئاب المنفردة ليستعمله في استقطاب الإرهابيين في الدول التي لا تقع تحت سيطرتهم، والذين يمكنهم بأدوات بدائية تصنيع قنابل شديدة الانفجار وتنفيذ عمليات القتل المخيفة. ومن العمليات التي جاءت لتحاكي هذا المفهوم تفجير بوسطن الأميركية في أبريل 2013 الذي نفذه شقيقان من أصل شيشاني، وذبح جندي بريطاني في لندن على يد مسلمين إثنين من أصول نيجيرية في مايو 2013، وحادثتا قتل واقتحام مبنى في كندا في أكتوبر 2014.
يرى الباحث أن خطاب المتحدث باسم داعش أبومحمد العدناني عام 2016 أعاد تجديد وتوظيف نظرية الجهاد الفردي التي تكشف التوجه المستقبلي للتنظيم وحجم الخطر المحدق بالعالم، نتيجة وطأة الهزائم التي تعرض لها في ليبيا وسوريا والعراق وبدا كأنه يهيئ أتباعه لتقبّل ما هو أشد، عندما ألمح إلى إمكانية خسارة التنظيم الرقة السورية أو سرت الليبية.
|
وكشف الخطاب عن اعتماد الذئاب المنفردة كاستراتيجية للتنظيم، حيث حث العدناني أنصار داعش على تنفيذ المزيد من الهجمات على المصالح الغربية في كل مكان، قائلا “استهداف من يسمى المدنيين أحب إلينا وأنجع”، وأضاف “لا عصمة للدماء ولا وجود للأبرياء”، وأكمل بقوله “إن لم تجدوا سلاحا فادهسوهم بسياراتكم”. ولفت الباحث إلى الاستجابة السريعة والقوية التي لاقتها دعوة العدناني، فبعد أيام تعرّضت أوروبا وأميركا لهجمات غير مسبوقة نفذتها الذئاب المنفردة تحت راية تنظيم الدولة، طعنا بالسكاكين أو دهسا في فرنسا، ورميا بالرصاص في أورلاندو بالولايات المتحدة، وقتلا بالفأس في بافاريا بألمانيا. وخلص البازي إلى أن هذه الاستراتيجية هي التي سيتبعها التنظيم بعدما خسر الكثير من مناطق نفوذه، حيث خسر الفلوجة العراقية ومنبج السورية وعلى وشك خسارة الموصل آخر معاقله في العراق.
تحدي الأجهزة الأمنية الأوروبية
يرى الباحث أن داعش يتحدى الأجهزة الأمنية الأوروبية بالذئاب المنفردة، فعندما يطالب الإرهابيين بحلق لحاهم، واستخدام العطور الأوروبية والاندماج في المجتمعات بطريقة لا تبعث على الشك، فإنه يجعل الأجهزة الأمنية كما لو أنها تطارد أشباحا، ولا تتمكن أجهزة مكافحة الإرهاب من تعقّبها. وتشير إحصائية أوروبية إلى اعتقال 687 من المشتبه بهم في أوروبا عام 2015، وإدانة 198 منهم بتهم تتعلق بالإرهاب والتطرف.
كما كشفت الشرطة الأوروبية أن ست دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي تعرضت في العام نفسه لـ211 اعتداء إرهابيا، إما فشلت أو تم إحباطها أو استكملت مخططها. كما أن حصيلة 2015، كانت 151 قتيلا وأكثر من 360 جريحا وتم اعتقال 1077 شخصا في الاتحاد الأوروبي، لجرائم تتعلق بالإرهاب، منهم 424 في فرنسا وحدها، وأن 94 بالمئة من الأفراد تمت محاكمتهم ووُجدوا مدانين.
ويوضح البازي أن بعض الهجمات الفردية، مثل هجومي أورلاندو في الولايات المتحدة ونيس في فرنسا، ضاهت في نتائجها الدموية تلك التي خطط لها داعش مؤسسيا مثل عمليتي شارلي إيبدو وبروكسل، ما يجعل عمليات الذئاب المنفردة باعتقاده الأفضل لدى داعش لأنها لا تحتاج إلى تخطيط معمق أو جهد لوجستي كبير، وهذه ميزة عملياتية، فعلى النقيض من العمليات المركزية للتنظيم، يلجأ مناصروه من الذئاب المنفردة إلى استخدام أدوات متاحة كالسلاح الأبيض أو ما شابهه أو حتى السيارات، فالفأس كانت في ألمانيا، والسيف في بلجيكا، والخنجر في لندن والدهس في نيس.
ويلحظ الباحث أن محدودية الإمكانيات المالية لم تمنع الذئاب المنفردة من استخدام السلاح الناري كما حصل في ميونيخ وأورلاندو، ومع ذلك يسعى التنظيم لتدريب أنصاره من الذئاب المنفردة على استخدام الوسائل البسيطة وغير المكلفة كما فعل من خلال المجلة الإلكترونية الإلهام (Inspire) التي كانت تبث من اليمن ويشرف عليها أنور العولقي الملهم الروحي للقاعدة، وكانت تقدم وصفات إرهابية لكيفية صنع قنبلة بوسائل متوافرة في المطابخ المنزلية، لحضّ المتعاطفين في الغرب على شن هجمات منفردة في بلدانهم، ما يؤشر على الدور الذي يلعبه الإعلام والاتصالات في الترويج للتطرف العنيف، وقصف العقول واستقطاب الأفراد للفكر الجهادي كما يحصل عبر وكالة أعماق التابعة للتنظيم.
خطاب المتحدث باسم داعش أبومحمد العدناني عام 2016 أعاد تجديد وتوظيف نظرية الجهاد الفردي التي تكشف التوجه المستقبلي للتنظيم وحجم الخطر المحدق بالعالم
وكشف الباحث أن من دواعي انتشار التطرف الحالة الثقافية المتوسطة للذئب المنفرد والتكثيف الإعلامي من داعـش ووكالته أعماق وغيرها، وجهل المستقطب بالمعالم الحقيقية للإسلام. وأكد أن السبب المباشر والأول لظاهرة الذئاب المنفردة هو الأمراض والاضطرابات النفسية، والسجلات الإجرامية حيث تعاني الأغلبية العظمى من الأشخاص الذين ينفذون هجمات انفرادية من اضطرابات نفسية.
وللحد من ظاهرة الذئاب المنفردة اقترح الباحث إيجاد حلول سياسية للأزمات في العراق وسوريا، والكف عن تأجيج الصراع الطائفي، والعمل على نشر الاعتدال والتسامح في المجتمعات العربية وكذلك في الأوساط الإسلامية في أوروبا والولايات المتحدة. ويرى الباحث أن احترام الحكومات الغربية للخصوصية الثقافية الإسلامية واعتماد سياسات عادلة وبرامج للاندماج الاجتماعي من شأنهما أن يقلصا من وطأة التطرف، كما أن المسلمين مطالبون بدورهم باحترام الثقافة الغربية التي يعيشون في ظلها كمواطنين وبذل الجهد للاندماج في مجتمعات المهجر، داعيا إلى العمل بصورة مستمرة على إيجاد حلول لأزمات اللاجئين في المجتمعات الجديدة، ومعالجة مشاعر الاغتراب الاجتماعي والانطوائية الثقافية وأزمة الهوية.
وبخصوص إشكالية التطرف بالبلدان العربية والإسلامية، دعا الباحث إلى مراجعة شاملة للمناهج الدراسية وتنقيتها من اتجاهات التعصب والتخندق والتمييز والفرز العنصري، وترسيخ قيم التعايش والسلام واحترام الإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وعرقه ولغته وجنسه. كما ينادي البازي بالحيلولة دون انتشار التكفير عبر التصدي لأيديولوجيا الإرهاب وليس لتنظيماته فقط، والعمل على حظر المواقع الإلكترونية التي تمارس التحريض وتروّج لخطاب الكراهية، وأيضا مراقبة السجون ومنع تحوّلها إلى محاضن لتفريخ الفكر الإرهابي.
ودعا الباحث إلى عملية دمج كوني شاملة للمواطنين المسلمين في مجتمعاتهم في جميع أنحاء العالم، للتخلص من البواعث التي قد تدفع أي فرد إلى القيام بأعمال إرهابية أو هجمات الذئاب المنفردة، فهذه برأيه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من هذه الظاهرة الخطيرة التي سيلجأ داعش إلى تنشيطها واستثمارها عند هزيمته في سوريا والعراق.
كاتب عراقي
اقرأ أيضا:
استراتيجية داعش المقبلة الفوضى والعودة إلى الصحراء