الدفاع الرئاسي عن الإجراءات ضد "حرية الأكاذيب" لا يعالج الشرخ بين أردوغان والإعلام

خرجت الرئاسة التركية بتصريحات مثيرة للجدل تربط فيها محاربة المعلومات المضللة بالديمقراطية وحرية الصحافة، ضمن سلسلة من التصريحات التي تبرر زيادة القيود على تدفق المعلومات وبشكل خاص على الإنترنت.
أنقرة - دافع رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخرالدين ألطون عن حرب مفتوحة تشنها الرئاسة على حرية الرأي في البلاد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن تم تحييد معظم وسائل الإعلام التركية وإلزامها بالنسخة الرسمية من الخطاب السياسي للرئيس رجب طيب أردوغان.
وقال ألطون إن الصحافة ضمانة للديمقراطية والحرية، ولا يمكن أن تكون هناك حرية للأكاذيب والدعاية الإرهابية وخطاب الكراهية والمعلومات المضللة المنهجية، وذلك في كلمة ألقاها خلال مشاركته الخميس في ندوة حول وسائل الإعلام الرقمية نُظّمت في العاصمة أنقرة بالتعاون بين دائرة الاتصال في الرئاسة التركية والرابطة الدولية لمعلومات وسائل الإعلام.
ووصفت هذه التصريحات بالهزلية لتكرارها مرارا من قبل ألطون، وتناقضها في المضمون بالدفاع عن حرية الصحافة، ثم تبرير القيود والرقابة على الإعلام في ذات الوقت.
وفي إطار ما أسماه ألطون مكافحة التضليل الإعلامي، الذي بات “بمثابة سلاح قاتل ومشكلة أمن قومي”، مررت تركيا جملة من القوانين والتعديلات دخلت حيز التنفيذ الشهر الماضي، منها قانون من 40 بندا تمت صياغته لتنظيم الطريقة التي يتم من خلالها مشاركة المعلومات عبر الإنترنت، وسمح للسلطات التركية بتقييد الوصول إلى الأخبار وفرض عقوبات جديدة لمجرد إبداء الرأي.
وترى الكاتبة ألكسندرا دي كرامر في مقال نشره موقع “سنديكشن” أنه مع تعزيز ملكية وسائل الإعلام للكيانات الموالية للحكومة، تم القضاء على استقلال التحرير الصحافي وأدى إلى سجن المئات من الصحافيين.
الهوة بين الحرية والصحافة كبرت في ظل الرئاسة الممتدة لأردوغان، مما قوض ثقة الجمهور في وسائل الإعلام
ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب أردوغان إلى السلطة في عام 2002 تعرضت حرية التعبير ووسائل الإعلام في تركيا إلى الاعتداء. وتمت مقاضاة 241 صحافيا وتعرض 115 آخرين منهم للاعتداء البدني في عام 2021، وذلك وفقا لجمعية الصحافيين الأتراك، ويتطلب نشر الأخبار اليوم إذنا من الحكومة، واحتلت تركيا المرتبة 149 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2022 الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود، وهي مرتبة أسوأ من الصومال وليبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وقد كبرت الهوة بين الحرية والصحافة في ظل الرئاسة الممتدة لأردوغان، مما قوض ثقة الجمهور في وسائل الإعلام وزاد من عمق الشرخ بين قطبي المجتمع.
ووجد تقرير حديث صادر عن “إكس.سي.أي.جي.أتش.تي.أس”، وهي مؤسسة استشارية مقرها المملكة المتحدة، أن 82 في المئة من الأتراك لا يثقون في وسائل الإعلام، وأعلى معدل للشك والريبة هو بين أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما، واعتبر 70 في المئة من الأتراك وسائل الإعلام كاذبة في عام 2018.
ولجأ الأتراك إلى وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الأخبار بعد أن تم تكميم أفواه الصحافة التقليدية، وأخذت منصة يوتيوب مركز الريادة في ذلك المجال، حيث ترك صحافيون بارزون التلفاز لإطلاق قنواتهم الخاصة على يوتيوب، مثل المذيعة السابقة نيفسين مينغو، وقد حظوا بنجاح كبير، حيث تقترب قناة مينغو من نصف مليون مشترك، وذلك دليل على أن وسائل الإعلام المستقلة في تركيا لم تمت بعد، ولكنها انتقلت إلى طورٍ آخر.
ويعد ذلك مشكلة كبيرة لحزب العدالة والتنمية، حيث إن الطبيعة المرنة والأكثر استقلالية للإنترنت هي السبب في أن أردوغان كان يبحث بكل جد عن طرق لتنظيمه، فقانون المعلومات المضللة والذي يطلق عليه الجمهور اسم “قانون مقص الرقيب” هو أحد المحاولات الواضحة للقيام بذلك.
وتفرض المادة رقم 34 من القانون رقم 7418 قيودا جديدة على منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وغوغل، ففي السابق كان بإمكان تلك المنصات إلغاء خيار الاشتراك في مشاركة عنوان بروتوكول الإنترنت “أي بي” لمستخدميها، والآن تتمتع الحكومة التركية بالقدرة على إغلاق تلك المنصات إذا حجبت مثل تلك المعلومات. وعلاوة على ذلك، إذا لم تنصع تلك المنصات لطلبات الحكومة فسيتم منعها من تلقي إيرادات الإعلانات وسيتم تغريم الشركات التركية التي تعلن على صفحاتها.

وهناك المادة رقم 29 والتي أثارت الذعر لدى الكثيرين، والتي تنص على أن من يقوم بنشر “معلومات مضللة” يمكن أن يسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات.
وقد دأبت الحكومة التركية على سجن الصحافيين والمواطنين على حد سواء لارتكابهم أعمالا أقل من ذلك، ففي عام 2014 حوكم المغني والشخصية العامة أتيلا تاس وسجن بسبب تغريدة قال فيها “لو كان إديسون قد رأى ما نراه اليوم، لما أقدم على اخترع المصباح الكهربائي” وكان تاس يسخر من شعار المصباح الكهربائي لحزب العدالة والتنمية، ولكن تغريدته استخدمت كدليل لربطه بمنظمة فتح الله غولن التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية. وفي الآونة الأخيرة، حكم على شخصية كبيرة على قنوات التواصل الاجتماعي وهي “بوكا” بالسجن لمدة خمسة أشهر في العام الماضي بسبب تغريدة اعتبرت “بغيضة” تجاه الرجال.
كما تم تقييد الأخبار المشروعة وتجريمها، على سبيل المثال، في غضون ساعات من التفجير الإرهابي الدامي الذي وقع الأحد في شارع الاستقلال في إسطنبول، أصدرت هيئة تنظيم الإذاعة والتلفزيون التركية حظرا على نشر تلك الأخبار، وأعقبته بفرض بعض القيود على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتعتبر الرقابة الحكومية الفورية للأخبار محاولة للسيطرة على السرد الصحافي، ولكن كان مصير كل تلك الجهود هو الفشل. لأن التعتيم على وسائل الإعلام خلال أوقات الاضطرابات لا يؤدي إلا إلى انزعاج الجمهور والمزيد من الشك في الحكومة.
مع تعزيز ملكية وسائل الإعلام للكيانات الموالية للحكومة، تم القضاء على استقلال التحرير الصحافي وأدى إلى سجن المئات من الصحافيين
وقد استلزم التقويض المستمر للمشهد الإعلامي على مدى العقد الماضي ظهور هيئات رقابية مستقلة، مثل “دوغرولوك باي” و”تييت”، وهي منظمات حاربت الأخبار المزيفة قبل فترة طويلة من تبني الحكومة لذلك الدور.
وحدد “تييت” في دراسة تم تعميمها في الشهر الماضي خمس صحف نشرت كميات كبيرة من المعلومات الزائفة منذ أكتوبر 2016. وكانت صحيفة “يني أكيت” وهي صحيفة يومية إسلامية محافظة ينظر إليها على أنها لسان حال الحكومة، هي الأكثر إنتاجا لتلك المعلومات الزائفة، حيث نشرت 117 مادة إخبارية تحتوي على معلومات مضللة.
وجاءت صحيفة “صباح” وهي صحيفة موالية لحزب العدالة والتنمية في المرتبة الثانية بـ73 قصة مزيفة. ومع ذلك، تستمر وسائل الإعلام الموالية للحكومة في نشر الأكاذيب في حين يلاحق “حزب العدالة والتنمية” المدونين المستقلين والصحافيين عبر الإنترنت.
وقالت دي كرامر إنه من الطبيعي أن يرغب “حزب العدالة والتنمية” في إحكام قبضته على السرد الصحافي السياسي، خاصة مع اقتراب الانتخابات العامة والتي من المزمع إجراؤها في شهر يونيو 2023، ومن الواضح أن هذا التشريع يهدف إلى إبقاء “حزب العدالة والتنمية” على كرسي السلطة.
وأعقبت الكاتبة أن المثير للحيرة هو فشل المعارضة السياسية التركية في منع تلك المحاولة، فمن بين 134 عضوا من حزب الشعب الجمهوري، وهو حزب المعارضة الرئيسي في البرلمان، حضر 40 عضوا فقط للتصويت على قانون المعلومات المضللة، في حين حضر 15 فقط من أصل 56 عضوا من حزب الشعوب الديمقراطي. فإذا كانت حرية التعبير مستهدفة من قبل “حزب العدالة والتنمية”، فإن المعارضة في البلاد تتحمل جزءا من المسؤولية.
وبعد عقود من سجن الصحافيين، وإغلاق وكالات الأنباء، وتجريم حرية التعبير، يبدو أن قادة حزب العدالة والتنمية يعتقدون أنهم من يُسيطر على الأخبار، وإذا استمرت المعارضة التركية في الإذعان الذي لا معنى له، فسيصبح ذلك الإذعان عنوان تخطه الأيام.