الدرس الذي تلقاه بينيت في أبوظبي

فكرة أن إسرائيل تريد أن توجه ضربة لإيران لم يشترها أحد في الولايات المتحدة. ولم يلق رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت من يشتريها في الإمارات أيضا.
الخليج برمته لا يحمل التهديدات الإسرائيلية لإيران على محمل الجد. وحتى ولو حصل ما قد يدفع البيت الأبيض إلى ترخيص ضربة للمفاعلات الإيرانية، فالولايات المتحدة أجدر بالقيام بها من إسرائيل. وفي الحالتين فإن دول الخليج لا تريد أن تكون طرفا، ولا حتى في الوسط بين خصمين، في قضية تعد جانبية بالنسبة إلى مشاغلها.
الحرب ضد إيران، من أينما جاءت، بالنسبة إلى هذه الدول خيار غير صحيح. أولا، لأنها مرتفعة التكاليف. وثانيا، لأنها سوف تعيد عجلة الأوضاع في المنطقة عشرين سنة إلى الوراء، من ناحية الاضطرابات السياسية والاجتماعية. وثالثا، لأنها ستعود لتوفر مبررات لتصعيد مناهج التشدد، في الخطاب وفي أعمال الإرهاب. ورابعا، لأنها غير مضمونة النتائج. وخامسا، لأنها بدلا من أن تقدم حلولا، فإنها تزيد الأزمات تعقيدا.
صحيح أن إيران تتصرف كقوة تدخلات عدوانية، وصحيح أنها تريد أن تواصل دعم ميليشياتها في العراق ولبنان واليمن. ولكن الصحيح أيضا هو أن هذه السياسات أضرت بإيران أكثر مما نفعتها. كما أنها حولت البلدان التي وقعت تحت نفوذ ميليشياتها إلى دول فاشلة. وإيران نفسها تتحول بما تفعله بنفسها إلى دولة فاشلة تعجز عن توفير الماء والدواء لقطاعات واسعة من مناطقها ومواطنيها.
الخليجيون، من حيث قد يعلم أو لا يعلم بينيت، يتحدثون بلغة واحدة. باطنها يتطابق مع ظاهرها. وإذا شرعوا بطريق، فقد علمتهم طبائعهم ألا يحيدوا عنه، لكي لا يتحول الأمر إلى تيه
وجهة النظر الخليجية هذه تدفع إلى الاعتقاد بأن إيران تحارب نفسها بما يكفي. وأن أحدا لا يحتاج أن يصرف درهما واحدا على زيادة أوضاع هذا البلد بؤسا.
على العكس من ذلك، تذهب الرؤية الخليجية، الإماراتية على وجه الخصوص، إلى أن الاتجاه الآخر هو الصحيح. فالمسؤولون الإيرانيون ليسوا عميانا إلى درجة أنهم لا يدركون حجم الفشل الذي أصابوا أنفسهم به، وأنهم إذا كانوا بحاجة إلى الاستدراك، فإنهم سوف يكونون بحاجة إلى صداقة دول الخليج بدلا من معاداتها.
سياسات التهديد والابتزاز التي لم تنفعهم من قبل، لن تنفعهم من بعد. وعندما يتوفر الماء والدواء للخمسة وثمانين مليون إيراني، فإن شيئا ما سوف يحصل في مناهج التفكير السائدة هناك ليدل المسؤولون الإيرانيون على أنهم بحاجة إلى مقاربة جديدة في العلاقات مع دول المنطقة، تقوم على التعاون وتبادل المنفعة والاستثمارات بحيث تستنهض هذه المنطقة قدراتها الاقتصادية وتوظّفها لخدمة التنمية.
بينيت سمع في أبوظبي، من دون أدنى شك، أن “تصفير المشاكل” الذي فتح الأبواب مع إسرائيل، هو نفسه “تصفير المشاكل” مع إيران وتركيا وغيرها.
الإماراتيون ينظرون إلى كل دول المنطقة على أنها مجال حيوي للاستثمار والتعاون الاقتصادي. وعلى أن الخلافات والنزاعات السياسية يمكن حصرها وتحجيمها ومعالجتها على نحو مستقل، قائم على أرضية التعاون وبناء الثقة، بدلا من أرضية التوتر والتصعيد السياسي أو الدعائي الذي لا يجدي نفعا.
إسرائيل تريد أن تظهر وكأنها قوة قادرة على القيام بأعمال خارج نطاق حدودها الجغرافية. هذا قد ينفع في رفع المعنويات في الداخل، ولكنه بالنسبة إلى دول الخليج جزء من المشكلة التي جعلت إسرائيل على نحو ما هي عليه. وهو ليس حلا عندما تتوجه به نحو إيران أو سوريا أو لبنان. هذا المرض؛ مرض القوة العسكرية، حلّ له الوقت أن يشفى.
اتفاقات السلام مع إسرائيل، إنما أرادت، على وجه الخصوص، أن تكبح ذلك الجموح نحو استخدام القوة العسكرية لفرض وقائع سياسية.
عاد بينيت من أبوظبي وهو يفهم أن دول الخليج تريد استقرارا في المنطقة، لا حروبا، ولا نزاعات. وأنها تسعى لتسوية الباقي منها على نحو يؤدي إلى إقالة المجتمعات التي تعرضت لأضرار تلك النزاعات من عثرتها، بما فيها إيران نفسها.
الخليجيون، من حيث قد يعلم أو لا يعلم بينيت، يتحدثون بلغة واحدة. باطنها يتطابق مع ظاهرها. وإذا شرعوا بطريق، فقد علمتهم طبائعهم ألا يحيدوا عنه، لكي لا يتحول الأمر إلى تيه.
صحيح أن إيران تتصرف كقوة تدخلات عدوانية، وصحيح أنها تريد أن تواصل دعم ميليشياتها في العراق ولبنان واليمن. ولكن الصحيح أيضا هو أن هذه السياسات أضرت بإيران أكثر مما نفعتها
السعودية عرضت سبلا عدة لإحلال السلام في اليمن. وإيران هي التي منعت من الأخذ بها، ظنا من بعض عنتريات حرسها الثوري أنها تستطيع أن تضغط على السعودية أكثر. فكان الرد بسيطا للغاية: حملة قصف مكثف لقنت الحوثي الدرس الذي لم يدركه. وما تزال الحملة قائمة. إنما لكي يفهم أصحاب الرؤوس الحامية في طهران أن خياراتهم تسير في الاتجاه الخطأ.
هذا ما دفع إيران إلى إعادة بحث قضايا الأمن الإقليمي مع السعودية في العاصمة الأردنية. والطريق مفتوح لخيارات الأمن والسلام.
مشكلة النووي الإيراني ليست مما يقلق الخليجيين. لديهم قدرات توفر لهم ما يشاؤون من الغطاء الأمني. ولو شاءت السعودية، لكانت قوة نووية أسرع من إيران بكثير، إلا أنها كأرض مقدسات، لم تكن لترغب بمسار من هذا النوع.
لعله من حق إسرائيل أن تقلق من النووي الإيراني. هذا أمر مفهوم. إلا أن أمن إسرائيل منوط بغطاء غربي عريض. مما يغنيها هي أيضا عن أن تتصدر السعي لكبح المشروع النووي الإيراني بنفسها.
الخليجيون يفهمون، على هذا الأساس، أن الصوت الإسرائيلي الذي يلعلع في التهديد بضرب إيران، هو جعجعة داخلية لرفع المعنويات، من جهة، ومحاولة لتحفيز دوافع الغطاء الغربي لأمنها، من جهة أخرى. وكلا الجهتين لا تباع ولا تشترى.
لقد أنشأت الإمارات معادلات جديدة في المنطقة، تقول إن الاستقرار الإقليمي هو الشيء المطلوب. وإن التعاون بين دول المنطقة، على اختلاف توجهاتها، هو حجر الزاوية لإعادة بناء اقتصادها ومجتمعاتها. وإن النزاعات السياسية قابلة للتسوية على أرضية التفاهم والمصالح المتبادلة. وإن ما يمكن خسارته في أي نزاع، يمكن توظيفه في مجالات التنمية. وهذه الأخيرة مفتوحة الأبواب ومتنوعة وذات طبيعة مستقبلية إلى درجة تجعل من غير المنطقي التخلي عنها لصالح سجالات عديمة الجدوى.
هذا التصور يذهب إلى أن المشاكل المعقدة قد يمكن حلها برؤوس حامية لتترك خلفها أضرارا متناثرة تصعب لملمتها، ولكن يمكن حلها بهدوء على مدى أطول من الوقت، وعلى أرضية تعاون وتبادل مصالح.
تلقى بينيت في أبوظبي درسا مهما من دروس السلام. وعاد منه “متفائلا”.