الدراما المصرية تعكس التوجهات الاجتماعية لعبدالفتاح السيسي

تقترب المسلسلات المصرية من الانسياق الجماعي وراء الطرح الدرامي للمشكلات الاجتماعية مبتعدة تدريجيا عن المواضيع التي منحتها طوال سنوات انتشارا عربيا واسعا، وملتزمة بمشكلات محلية تقربها أكثر من توجهات الرئيس عبدالفتاح السيسي ومقاربته في الإصلاح المجتمعي، التي ما انفكّ يتهم الإعلام المصري بتعمّد تجاهلها، في حين صار يشيد بماكنة الإنتاج الدرامي التي تعكس توجهاته الاجتماعية، بدءا من الخطط الحكومية الكبرى وصولا حتى إلى لقاءات الرئيس وتحركاته اليومية التي تتطرق إلى مواضيع ومشكلات تهم المجتمع المصري.
القاهرة - يشكو الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي دائما من وسائل الإعلام المحلية وأنها لا تقوم بواجباتها في ما يتعلق بتسليط الأضواء على مشروعاته وإنجازاته، وظل امتعاضه يتكرر بين حين وآخر من إعلام لا يقدم ما يريده في مجالات مختلفة، على الرغم من أنه لا يتوقف عن تغطية تحركاته ونقل جميع فعالياته بكثافة في الداخل والخارج.
يبدو أن الدراما المصرية التقطت الخيط الذي يبحث عنه الرئيس السيسي على طريقتها ووجدت في القضايا الاجتماعية التي يهتم بها مدخلا لتصبح قريبة من رؤيته في الإصلاح المجتمعي، حيث جرى ويجري تقديم مسلسلات تهم شريحة واسعة من الناس وتمثل محورا رئيسيا في تحركات السيسي الأخيرة.
جاءت ردود الفعل الطيبة من جهات رسمية على ما عرض لتمنح إشارة تعني الاستمرار في تقديم المزيد من المقاربات ذات البعد الاجتماعي، وبالتالي يكون هناك ما يشبه التناغم بين الرئيس وأدواته الدرامية، ما يدخل الأخيرة حظيرة التوجيه ويغلق أمامها فرص توسيع المروحة الثقافية، لأن ثمة قضايا متشابكة تحتاج إلى مرونة فنية.
ويفسر تجاوب الدولة مع هذا اللون الدرامي جانبا من الأسباب التي أدت إلى كثافة الحكايات والحلقات التي قدمت خلال الأسابيع الماضية، وركزت على ملفات اجتماعية مقتبسة أحيانا من قصص واقعية، بدءا من قضايا المرأة ودعمها ومشاكل العلاقات الزوجية، وحتى أزمة الطلاق الشفوي التي أثارت خلافا مبطنا بين السيسي ومؤسسة الأزهر، حيث رفض رئيسها أحمد الطيب تقديم فتوى عاجلة تمنع الاعتراف بهذا النوع من الطلاق.
إحجام ديني وإقدام فني
الدراما التقطت الخيط الذي يبحث عنه السيسي ووجدت في القضايا الاجتماعية مدخلا لتصبح قريبة من رؤيته في الإصلاح المجتمعي
امتنعت الدراما المصرية عن تناول قضية الطلاق الشفوي في إطار أزمة التصورات المتباينة بين الرئيس السيسي والشيخ الطيب، وقدمتها في سياق فني جذاب يكشف المخاطر التي تنطوي عليها عبر أحداث مسلسل حمل اسم “لعبة نيوتن” عُرض في رمضان المنقضي، وهو من بطولة منى زكي ومحمد ممدوح ومحمد فراج، وحقق نجاحا لافتا في حينه، خاصة أن المعالجة الفنية كانت متوازنة وبعيدة عن التشنجات الدينية والاجتماعية.
ومنح هذا العمل الصك لأعمال فنية أخرى للاقتراب كثيرا من قضايا اجتماعية يتطرق إليها السيسي وتحتل أولوية في أجندته الراهنة، تتجاوز الموضوعات السياسية والأمنية التي طرحت من قبل في مسلسلات مثل “كلبش” و”الاختيار” و”هجمة مرتدة” و”القاهرة – كابول”، وكلها أعمال أقرب إلى دراما الجاسوسية التي بدأها الكاتب الراحل صالح مرسي من خلال مسلسل “رأفت الهجان”، وتم إعداده بالتنسيق بين المؤلف وجهاز المخابرات المصرية والتلفزيون الرسمي كمنتج فني.
وشجع الاستحسان الرسمي الذي وجدته الأعمال الاجتماعية القائمين على الدراما في مصر على التطرق إلى جرعات جديدة منها، انتقلت من مرحلة المعالجة التي تتسم بعمومية إلى أخرى لها خصوصية في المعالجة الاجتماعية والطرح الفني، وخرجت من العباءة التي تركز على قضايا المرأة والمجتمع وفقا للخطاب الذي يتبناه الرئيس المصري إلى الدخول في عمق كل قضية على حدة.
وجاءت قضية ذوي الاحتياجات الخاصة أو ذوي الهمم أو أصحاب الأمراض المزمنة، وهي من المسميات التي تستخدم في قاموس اللغة المتداولة بمصر، لتأخذ القضايا التي يطرحها السيسي من فضاء الإعلام العام إلى الدراما المتخصصة التي تأتي معالجتها أوسع تفصيلا، وفي قالب يحاول لفت انتباه الجمهور ويلبي الغرض الذي يريده الرئيس المصري، في ظل حرصه البالغ على إبراز الوجه الاجتماعي وانحيازاته للطبقة الفقيرة التي تعد الكتلة السياسية الحرجة في مصر.
أعمال فنية مباشرة
كانت حكاية “حلم حياتي” التي عرضت مؤخرا على قناة “دي.أم.سي” المصرية من بطولة مايان السيد وتيّم مصطفى قمر، والتي تتعرض لمرض التوحد ورغبة المريضة في الوصول إلى حلم حياتها في التمثيل، انعكاسا لأحد اللقاءات التي عقدها السيسي مع ذوي الاحتياجات الخاصة، والتي ركز فيها على اندماجهم في المجتمع ومساعدتهم في التعرف على مواهبهم، وأوصى بإفساح المجال لاستيعابهم في الحقلين الفني والرياضي.
وظهر الارتباط بين العمل الدرامي وحديث الرئيس المصري جليا، حيث استعان العمل بمقتطفات من خطابه الذي تطرق فيه إلى ذوي الهمم وضرورة تشجيعهم، وحوت حكاية “حلم حياتي” مشاهد ظهر فيها أشخاص حضروا لقاء السيسي، بما أضفى تلاحما بين المسلسل كعمل فني خيالي وبين أشخاص من لحم ودم في الواقع.
ولم ينته تقييم النقاد لهذه الحكاية حتى باغتهم التلفزيون بحكاية أخرى بعنوان “تقلها دهب” (ثقلها ذهب) تتناول قصة بعض بطلات الألعاب الفردية من المصريات اللواتي حققن ميداليات ذهبية وفضية في الألعاب الأولمبية التي جرت في طوكيو مؤخرا، وكرمهن الرئيس السيسي واحتفى بهن وشجعهن على مواصلة التحدي.
هذه الحكاية بطولة سارة عبدالرحمن وجسدت دور بطلة التايكوندو هداية ملاك، وهند عبدالحليم وجسدت دور بطلة الكاراتيه فريال أشرف، فضلا عن الفنانة الشابة هلا السعيد التي جسدت دور بطلة المصارعة سمر حمزة، وكان الأداء التمثيلي والمشاهد التي جرى تجسيدها قريبين من الحكاية الواقعية مع اختلاف في أسماء الشخصيات.
ويشير هذا التركيز إلى انطباع فوري بأن الدراما المصرية تخدم توجهات رئيس الجمهورية، وتعتقد أنها تسد ثغرة لم ينجح الإعلام في ردمها طوال الفترة الماضية، وتعني أن هناك دعما تحظى به من أجهزة الدولة والشركات المنتجة الخاضعة التي تعمل وفقا لأجندة محددة ترعاها أو توجهها أجهزة تابعة للحكومة، ما يوحي بأنها لا تهتم كثيرا بما يحتاجه الجمهور بقدر اهتمامها بما يريده رئيس الجمهورية.

وضع السيسي مقارنة بين حال إعلامه وبين الإعلام في وقت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ووصف الأخير بأنه “كان محظوظا بإعلامه”، وبصرف النظر عن اختلاف الأزمنة والأشخاص، فإن مجرد الإشارة يكفي ليؤكد عدم رضاه عما يقدم من معالجات إعلامية وثقافية، في المقابل امتدح الدراما أكثر من مرة واعتبرها وسيلة مهمة في يد الدولة، وتزداد هذه الأهمية كلما اقتربت من فحوى خطابه الاجتماعي.
ولا يسعى السيسي إلى الاهتمام بالخطاب السياسي الذي يظل من المحاور الرئيسية للإعلام والدراما والثقافة بوجه عام، وهو أيضا ما يخشى البعض الغوص فيه خوفا من الوقوع في خطأ أو تقديم أعمال لا تعكس ما يريده الرئيس، فتناول السياسة دراميا بشكل خاص يحتاج إلى مساحة كبيرة من حرية الإبداع، وفي ظل القيود الحالية من الصعوبة وجود أعمال كثيرة ذات طابع سياسي، ما يجعلها عملة نادرة.
وتكمن مشكلة الإسراف في تناول القضايا الاجتماعية التي تتناسب مع تصورات الرئيس، في تحويل الدراما إلى بوق للدعاية واختفاء صفة التنوع، فالموجة الحالية يمكن أن تصاب بالسكتة الدماغية بعد تقديم عدد من الأعمال، أو اللجوء إلى إعادة تكرار نماذج تعزف على ثيمة واحدة فيصاب المشاهد بالملل ويتم فقدان الهدف الرئيسي منها.
الأخطر أن تقديم أعمال ذات طابع اجتماعي محلي يفقدها القدرة على التسويق الخارجي، فالكثير من الجمهور العربي كمستهدف أول للدراما المصرية لن يقبل عليها بكثافة، الأمر الذي يمنح المنافسين العرب الجدد في سوق الدراما ميزة نوعية، لأن أعمالهم تطرق أبوابا مختلفة ولا تقتصر على الجوانب الاجتماعية.
وفي ظل التنامي الملحوظ لسوق المنصات الرقمية يمكن أن تتعرض الدراما المصرية إلى ضربة فنية قوية ما لم تجدد جلدها ولونها، وتخرج من عباءة التسويق المباشر في أعمال معينة وتتوقف عن التوسع في القضايا الاجتماعية المغرقة في المحلية أحيانا، وتعتمد على ممثلين شباب يبحثون عن أدوار تقدمهم للجمهور.
ومن السهل على المراقب للإنتاج الدرامي للسنوات الماضية، أن يلاحظ أن الدراما المصرية حصلت على تفوقها في ما مضى من أعمالها الملحمية التي تتداخل فيها القضايا الاجتماعية مع السياسية والاقتصادية، ونجحت في أن تحرز مكانة متقدمة، ولذلك فالتقويض الحاصل في التنوع سوف يضيّق مساحة الحركة الفنية وينعكس سلبا على حجم التأثير المصري في سوق الدراما.