الخوارزميات تمهد لثورة صحية تنقذ حياة البشر

العلماء تمكنوا من تدريب خوارزمية على تحليل البنية الأساسية لـ2500 دواء ومركب مختلف، للعثور على حل ينهي مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية.
الجمعة 2020/02/28
الخوارزميات تفوقت على البشر في اكتشاف الأنماط المختلفة للأعراض المرضية

لا يزال استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية في مراحله الأولى، ومازال هناك تقدم كبير يمكن إنجازه لتحقيق هذه الغاية. وتسعى مؤسسات علمية إلى استخدام الخوارزميات، لتحسين النتائج. وتخدم منصات صحية المرضى والعاملين الصحيين، بإتاحتها استشارات طبية فورية تساعد المرضى على تحديد الخطوات التالية المناسبة.

لندن – باعتماد خوارزميات معقدة، يزود الذكاء الاصطناعي المهنيين العاملين في القطاع الصحي، مثل الصحة المجتمعية، والصيدلة، والتمريض، والقابلات، بأدوات تدعم اتخاذ القرارات في الفحوص السريرية، وهي مهارات تعاني نقصا في الكفاءات البشرية، وربما يشكل هذا الدعم الفارق بين المرض والصحة، بين الموت والحياة.

وتتعلق أكبر المعضلات التي يواجهها المختصون في البحوث الصحية، بمنطق السبب والنتيجة، ودراسة العلاقة المتداخلة بين ظاهرتين، وأسباب ترافقهما، بينما لا يعني ذلك بالضرورة أن أحدهما سبب للآخر، ومن هنا جاءت القاعدة التي تقول إن “الارتباط لا يقتضي السببية”.

هذا المفهوم سبب لمعضلة كبيرة يواجهها الأطباء؛ حيث تكون الأمراض ناجمة عن عدد كبير من المتغيرات المترابطة، ويحتاج تشخيص المرض إلى التعرف على مسببات ظهور أعراض المرض، وغالبا ما يتم فهم تشابك الأسباب المعقدة والمتداخلة من خلال دراسة رصد دقيقة، أو من خلال تجارب عشوائية.

وتشكل البيانات الصادرة عن هذه الدراسات والتجارب، بالنسبة إلى العاملين في مجال البحث الطبي ثروة هائلة، لكنها غالبا ما تنشر عبر مجموعات بيانات مختلفة، تطرح أمام العاملين في الحقل الطبي أسئلة عديدة يفشلون في التوصل إلى إجابات لها.

مثال على ذلك: إذا أظهرت مجموعة بيانات وجود علاقة بين السمنة وأمراض القلب، وبينت مجموعة أخرى وجود علاقة بين انخفاض فيتامين (د) وأمراض القلب، فما هي العلاقة هنا بين انخفاض الفيتامين (د) وأمراض القلب؟

سوف تتطلب الإجابة على هذا السؤال إجراء تجربة سريرية أخرى.

يبدو أن الحل لتلك المعضلة هو الكومبيوتر، وتقنية الخوارزميات؛ تستطيع أجهزة الكومبيوتر اكتشاف الأنماط المختلفة بسهولة، ولكن كما بيّنا يعتبر الارتباط بين هذه الأنماط في الطب ارتباطا عاديا، وليس سببا.

في السنوات الأخيرة، حقق علماء الكومبيوتر اختراقا، وبدؤوا ببرمجة خوارزميات قادرة على تحديد العلاقات السببية داخل مجموعة بيانات واحدة، وهنا تكمن المشكلة، لأن عملية البحث في كل مجموعة بيانات على حدة أمر معقد للغاية، هو أشبه بالبحث في عدد كبير من الأقفال واحدا تلو الآخر، والحل في إيجاد آلية تمكّن من البحث في المجموعات المتباينة في آن واحد.

لحلّ تلك المعضلة، توصل باحثان من شركة “بابيلون هيث” وهي شركة متخصصة في الرعاية الصحية الرقمية في المملكة المتحدة، إلى تقنية يمكن باستخدامها اكتشاف العلاقات السببية عبر مجموعات مختلفة من البيانات، فاتحين بذلك المجال لاستخدام نوع جديد من قواعد البيانات الطبية الكبيرة في البحث عن الأسباب والنتائج.

قام الباحثان أنيش دهير وسياران لي، بتطوير تطبيق يعتمد على روبوت خاص بالدردشة، يطلب من المريض سرد الأعراض التي يعاني منها، ويعطيه بناء على ذلك تشخيصا مبدئيا لما يشتكي منه، ونصائح حول العلاج. وقالت الشركة، رغم انتقادات وجهت لها، إن الروبوت المعتمد على الذكاء الاصطناعي تفوّق في تشخيص الأمراض على الأطباء البشر.

وتتيح القدرة على تحديد العلاقات السببية في البيانات الطبية، تحسين الذكاء الاصطناعي التشخيصي لروبوت الدردشة. ويقول سياران لي، الذي يعمل أيضا على تطوير التعلم الآلي والحوسبة الكمومية في جامعة لندن، إن إعطاء الأسباب والتبريرات وراء التشخيصات التي وضعها روبوت عبر الإشارة إلى السبب والنتيجة الأساسية، بدلا من الارتباطات الخفية، يمنح المستخدمين مزيدا من الثقة في التطبيق.

وسرعان ما أدرك الباحثان أنه يتعين عليهما البدء في برمجة روبوت الدردشة من الصفر. ويقول لي “عندما تعمقنا في الأمر، لاحظنا عدم وجود أيّ حل سابق لهذه المشكلة. ويكمن التحدي في كيفية دمج مجموعات بيانات متعددة، تشترك في بعض العناصر الشائعة، ومن ثم استخراج أكبر قدر ممكن من المعلومات حول السبب والنتيجة من تلك البيانات المدمجة”.

 الذكاء الاصطناعي أكثر دقة من الأطباء في تشخيص المرض
 الذكاء الاصطناعي أكثر دقة من الأطباء في تشخيص المرض

ويدّعي الباحثان قدرة هذه الخوارزمية على تحديد العلاقة السببية بين المتغيرات، بنفس كفاءة التجارب السريرية، في حال توافر البيانات الأولية؛ أي أن النظام سيتمكن من إيجاد الروابط السببية عبر استخدام البيانات الموجودة بالفعل، وذلك عوضا عن القيام بتجربة سريرية عشوائية جديدة. ويعترف سياران لي أن هذه الخوارزمية ستحتاج إلى دليل قاطع حتى يتمكن من إقناع العالم بها.

رغم ذلك، يقول لي، تمنح الهيئات الرسمية موافقتها على تصنيع العقاقير الجديدة بناء على التجارب التي تظهر الارتباط فقط، وإن لم يكن هذا الارتباط سببا، ويعتبر لي أسلوب التجارب العشوائية الموجه والمتبع في دراسة العقاقير الجديدة أقل إقناعا من الخوارزميات التي توصّل إليها.

ودعمت دراسة جديدة حول سرطان الثدي، قدرة الخوارزميات على التشخيص، واعتبرت الدراسة أن الذكاء الاصطناعي أكثر دقة من الأطباء في تشخيص الإصابة من خلال تصوير الثدي بالأشعة السينية.

وقام فريق الدراسة، الذي ضم باحثين من “غوغل هيلث” و”إمبريال كوليدج أوف لندن”، بتصميم وتدريب نموذج كمبيوتر على قراءة صور الأشعة السينية لنحو 29 ألف سيدة. وقد تفوقت خوارزمية الذكاء الاصطناعي في تشخيص سرطان الثدي على ستة أخصائيين في الأشعة.

وفي تجربة أخرى، استخدم العلماء خوارزمية قوية لتحليل أكثر من مائة مليون مركب كيميائي في غضون أيام، وتوصوا إلى اكتشاف نوع جديد من المضادات الحيوية، في إنجاز هو الأول من نوعه في العالم.

وأشاد خبراء بهذا الإنجاز، واعتبروه تقدما كبيرا في حل مشكلة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، المشكلة التي أصبحت اليوم متفاقمة. وتمكن الباحثون  باستخدام تركيبة المضادات الحيوية المكتشفة حديثا، من القضاء على 35 نوعا من البكتيريا القاتلة.

وكانت معدلات الإصابة بالأمراض المقاومة للمضادات الحيوية خلال السنوات الأخيرة قد ارتفعت بنسبة 9 في المئة في إنجلترا، بين عامي 2017 و 2018، لتبلغ ما يقارب 61 ألف حالة.

وفي حال تناول المضادات الحيوية بشكل غير مناسب، قد تكتسب البكتيريا الضارة التي تعيش داخل الجسم القدرة على مقاومة تلك المضادات، ما يعني أن الأدوية ستفقد فعاليتها في شفاء الأمراض والقضاء على البكتيريا.

ووصفت منظمة الصحة العالمية هذه المشكلة بأنها “واحدة من أكبر التهديدات التي تواجه الأمن الصحي العالمي والتنمية حاليا”.

وقالت ريجينا برزيلاي، الباحثة البارزة في المشروع بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا “في ما يتعلق باكتشاف المضادات الحيوية، فإن هذا الإنجاز هو الأول من نوعه على الإطلاق”.

والخوارزمية التي استخدمت في إنجاز الاكتشاف، مستوحاة من بنية الدماغ البشري.

وتمكن العلماء من تدريب الخوارزمية على تحليل البنية الأساسية لحوالي 2500 دواء ومركّب مختلف، للعثور على أفضل المركّبات المضادة للبكتيريا التي يمكن أن تقتل البكتيريا القولونية.

واختار الباحثون 100 شخص لإجراء اختبارات عليهم قبل اكتشاف هاليسين (دواء يعمل كمثبط للإنزيم كيناز).

وقال جيمس كولينز، وهو مهندس بيولوجي في الفريق من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا “أعتقد أن هذا هو أحد أقوى المضادات الحيوية التي تم اكتشافها حتى الآن”. وأضاف “أردنا تطوير منصة تسمح لنا بتسخير قوة الذكاء الاصطناعي للدخول في عصر جديد من اكتشاف مضادات حيوية”.

وأكد الدكتور بيتر بانيستر، رئيس لجنة الرعاية الصحية بمعهد الهندسة والتكنولوجيا، إن الطريقة المستخدمة “راسخة” بالفعل في البحوث الطبية.

حلول ذكية للقضاء على البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية
حلول ذكية للقضاء على البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية

وقال بانيستر في تصريح لبي بي سي “اكتسبت الطريقة نفسها شعبية في تطوير علاجات جديدة، مثل الأدوية، وفي حالة هذا البحث، كانت المضادات الحيوية وسيلة لإدراك الأنماط، التي يمكن أن تساعد في فرز الأعداد الهائلة من الجزيئات الكيميائية”.

وأضاف بانيستر “تتجاوز هذه الورقة المحاكاة النظرية، وتقدم نتائج ما قبل الاختبارات السريرية، والتي تعد ضرورية إلى جانب التجارب السريرية اللاحقة لإظهار فعالية وسلامة الأدوية الجديدة المكتشفة بالذكاء الاصطناعي”.

وكانت بريطانيا منذ عام 2014، قد خفّضت عدد المضادات الحيوية التي تستخدمها بنسبة تتجاوز 7 في المئة، ولكن ارتفع في المقابل عدد الإصابات المقاومة للأدوية بنسبة 35 في المئة خلال الفترة من 2013 إلى 2017.

وأضاف الباحثون أن استخدام التكنولوجيا لتسريع اكتشاف الدواء، يمكن أن يساعد في خفض تكلفة إنتاج المزيد من المضادات الحيوية في المستقبل.

12