الحياد المصطنع في ليبيا: المجتمع الدولي مع الدبيبة وباشاغا

لماذا تُبقي الأمم المتحدة وقوى دولية الباب مفتوحا أمام الحكومتين.
الأحد 2022/03/20
غموض يعقد المشهد الليبي

الحياد التي تبديه أغلب الدول تجاه وجود حكومتين في ليبيا يرسل إشارة واضحة بأن هناك رغبة في ترك الملف الليبي معلقا دون حل، فلا توافق حول الانتخابات بما تعنيه من مغادرة المراحل الانتقالية إلى الاستقرار السياسي. والأمر مرتبط بحسابات الدول الكبرى وصراعاتها هنا وهناك. ولأجل ذلك تستمر حكومة الدبيبة بالرغم من شرعية حكومة باشاغا.

مضى نحو شهر على الإعلان عن تشكيل حكومة ليبية برئاسة فتحي باشاغا بتكليف من مجلس النواب، ولا تزال الأمم المتحدة والعديد من القوى الدولية تناور في مسألة الاعتراف بها أو تحسم إشكالية عدم الاعتراف لأسباب محددة، ومضى نحو ثلاثة أشهر على انتهاء مهمة رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة من دون أن يمدد لها المجتمع الدولي أو يعترف بفقدان صلاحيتها السياسية.

أصبح الحياد المصطنع حيال الحكومتين مكلفا للشعب الليبي، حيث يدفع ضريبة باهظة للتناقضات الدولية التي أسهمت في إطالة أمد الأزمة، ما يدل على فقدان البوصلة لدى ستيفاني ويليامز المستشارة السياسية لسكرتير عام الأمم المتحدة التي بعثت مرة أخرى بعد رحيلها عن منصبها كمبعوثة أممية لبعثة الدعم في ليبيا بالإنابة، وهي التي حسبت أنها تستطيع التحكم في مفاصل الأزمة بحكم خبرتها وعلاقاتها.

تؤكد المراوحة الراهنة بين الحكومتين أن القوى الدولية التي تمسك بجزء معتبر من مفاتيح الحل والعقد مرتاحة لهذه الحال، وتجدها تحقق جملة كبيرة من الأهداف السياسية، فلا تريد تصعيدا عسكريا متواصلا ولا سلاما مستقرا، يخلط كلاهما بعض الأوراق التي يجري التجهيز لها بشأن ترتيب أوضاع ليبيا لتكون تحت الحزام الغربي.

تدل هذه الحالة على أن الخيارات غامضة وكل ما قيل حول وجود أجندة دولية خرجت من رحم مؤتمرات برلين وجنيف واجتماعات تونس غير واضحة وأركانها لا تزال ناقصة أو يصعب تطبيقها وأن المصالح الحيوية للقوى الكبرى يمكن تحقيقها من خلال باشاغا أوالدبيبة، وبانتظار مؤشرات بعيدة عنهما تحسم الانحياز لأيّ منهما.

تؤكد المراوحة الراهنة بين الحكومتين أن القوى الدولية التي تمسك بجزء معتبر من مفاتيح الحل والعقد مرتاحة لهذه الحال، فلا تريد تصعيدا عسكريا ولا سلاما مستقرا

يتفهم الرجلان هذه المصالح عن ظهر قلب، وما يفصل بين اختيار أيهما مجموعة من العوامل لا علاقة مباشرة بهما، لأن الأزمة في ليبيا ليست منفصلة عمّا يدور على الساحة الدولية بشأن الصراع المحتدم بين روسيا، والولايات المتحدة ومعها حلفاء غربيون، فكل طرف يقبض على تلابيب أوراق فيها، ما جعل الحسم في ملف رئاسة الحكومة الليبية تتقاطع فيه مكونات مع ما يدور على الساحة العالمية.

قلب التأييد الروسي لحكومة باشاغا التي خرجت من رحم البرلمان الليبي وحظيت بدعم الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر جانبا من التوازنات الغربية التي كانت تميل نحو إعداده مبكرا لقيادة ليبيا، وعلى أساسها مضى الرجل في هذه الخطوة، فقد عرف باشاغا بعلاقته الوطيدة مع واشنطن وكان مقربا من ستيفاني واحتفظ بروابط جيدة مع تركيا، وهي توليفة سياسية بديعة كافية لتمرير مشروعه في قيادة الحكومة حتى يتم إجراء الانتخابات، وإعادة تكليفه بعدها بالانتخاب الشعبي.

ما الذي تغيّر وأثّر سلبا على فرص باشاغا، أو على الأقل وضع العراقيل على جانبي طريقه، فلا هو قادر على التقدم للأمام ولا التراجع للخلف، وأمره معلق بين السماء والأرض، أو يراد له أن يكون في هذه الحال التي لا تعني القبول أو التضحية به.

تراجعت المؤشرات السلبية الأولى بشأن عدم استمرار حكومة الدبيبة مع الشعور بأن براغماتية باشاغا يمكن أن تؤثر على توجهات الولايات المتحدة، فقد بدا كأنه غير مضمون ولا تشعر الإدارة الأميركية بأنها سوف تحقق أهدافها كاملة من خلاله، وأدى هذا التعقيد إلى منح الضوء للدبيبة للمقاومة وعدم الاستسلام، ما جعل الحرب في أوكرانيا تلقي بظلالها، ويتحول خيار الحياد بين باشاغا والدبيبة إلى سياسة تتبناها الدول الغربية تحت شعار جذاب يدعو إلى التوفيق بينهما والبحث عن نقاط التقاء مشتركة لوضع قاعدة قانونية لإجراء الانتخابات.

يعيد هذا التطور الأزمة إلى نقاط التخبط السابقة، ويفرّغ المؤتمرات الدولية التي عقدت والمبادرات التي طرحت من مضامينها المعلنة بشأن طيّ صفحة الأزمة بأقصى سرعة ممكنة، ويؤكد أن الطريقة التي تتعامل بها القوى الغربية مع الأزمة لن تسمح بتسويتها إذا كانت هناك إمكانية لوقوع ليبيا أو جزء من مواردها في أيدي روسيا، أو حتى تتحول إلى ركيزة أمنية لها في جنوب البحر المتوسط.

وغير مستبعد أن يكون عدم الحسم في ليبيا الآن ضمن سيناريو محكم يستهدف تطويق القوات التابعة لشركة فاغنر الروسية التي تنشط في الشرق والجنوب وإجبارها على الخروج من مناطق تصدير النفط في ليبيا والتحكم فيها، والذي يمكن أن يؤدي عمله بطاقته القصوى إلى سد جزء من العجز المتوقع في النفط الروسي المتجه إلى أوروبا.

تفسر البرودة التي تتعامل بها الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا مع ليبيا، بأنها مرتاحة لدرجة الهدوء التي تبدو عليها الأزمة وفرضها توازنات بين الفصائل المسلحة التابعة لجبهات متصارعة متعددة، ولا تسمح بتفوق طرف على آخر فيتمكن من فرض شروطه والجهات التي يتعاون معها في الخارج، ما يعني أن الحفاظ على المسافة الحالية بين باشاغا والدبيبة أحد الخيارات المفيدة للقوى الغربية.

ما الذي تغير وأثر سلبا على فرص باشاغا، أو على الأقل وضع العراقيل على جانبي طريقه، فلا هو قادر على التقدم إلى الأمام ولا التراجع إلى الخلف
ما الذي تغير وأثر سلبا على فرص باشاغا، أو على الأقل وضع العراقيل على جانبي طريقه، فلا هو قادر على التقدم إلى الأمام ولا التراجع إلى الخلف

يعلم الكثير من المتابعين لتطورات الأزمة في ليبيا أن الرجلين لا يملك كلاهما قراره تماما، ولو أرادت هذه القوى فرض حل عليهما أو على أحدهما لتمكنت بسهولة، غير أن هذا الحل مؤجل حتى إشعار آخر، ومطلوب أن تبقى الصورة السياسية والأمنية على هيئتها الرمادية، بما يسمح بتبني تصورات متباينة قد تصل إلى مستوى التناقض فيها.

كما أن المشهد الذي جرى رسمه مع تدشين حكومة الدبيبة العام الماضي دخلت عليها تغيرات أعاقت التوجه نحو استكماله، حيث كان سيقود إلى نتائج مخيبة، وتطبيق معايير الفشل السياسي على الدبيبة يمنح الفرصة لخصومه للتفوق على تكتله.

عادت القوى الدولية إلى مرحلة ما قبل حكومة الدبيبة وكان التردد فيها ظاهرا لعدم اليقين من وجود قوة يمكنها ضبط المعادلة في الفضاء الذي تريده الولايات المتحدة، وعندما تمت هندسة هذه الحكومة على أساس أنها قادرة على ضبط الأوضاع والوصول إلى غاياتها بموجب إجراء انتخابات انهارت مع إخفاقها في إتمام هذه الخطوة، ولا تفكير جادا في محاسبة رئيسها على ما ارتكبه من أخطاء وتجاوزات.

وتشير الليونة المبالغ فيها التي تتعامل بها القوى الغربية معه إلى أن دوره السياسي لم ينته وما زال مطلوبا، والحديث عن نقاط مشتركة بينه وبين باشاغا ما هو إلا أداة لاستثمار الوقت، واستمرار الأزمة على ما هي عليه يشي بأنها تحقق للقوى الرئيسية التي تديرها فوائد، ولن تكون هناك حاجة لوقفها ما لم تكن هناك تطورات ملموسة تؤثر على الحسابات التي أدت إلى الحفاظ على مستوى معين من التقارب بين الحكومتين.

ويظل الحياد المصطنع بينهما وسيلة إلى حين الانقلاب على أحدهما أو تدبير سيناريو ثالث يوفر مساحة للحركة والوصول إلى الغايات المطلوب تحقيقها، فوجود ليبيا على فوهة بركان ربما ينفجر أو تتمكن القوى الغربية من السيطرة عليه ما يساعدها على تسخير أراضيها في معركتها المصيرية الدولية، فقد كانت هذه الدولة، لاعتبارات مختلفة، مسرحا لفصول مهمة في الحرب العالمية الثانية، ويمكن أن تكون كذلك إذا تصاعدت حدة الأزمة بين روسيا والغرب أو ظهور شبح لحرب عالمية ثالثة.

4