الحكومة المصرية تمنح الكنيسة حرية في العمل الاجتماعي

منحت الحكومة المصرية الضوء الأخضر للكنيسة لتدشين برامج اجتماعية علانية، منها “بنت الملك” لتغطية احتياجات المقبلات على الزواج، و”علم ابنك” و”شنطة البركة”. وبدت الخطوة دعما سياسيا من الحكومة للأقباط، مقابل تقويض دور السلفيين والإخوان في العمل الاجتماعي.
القاهرة - حصلت الكنيسة المصرية على مساحة كبيرة في العمل الاجتماعي لخدمة رعاياها من الأقباط، ومنحتها الحكومة صكا لتوسيع نشاطها علانية بعد أن كان دورها يتم في صورة شبه سرية منعا لحدوث صدام مع قوى إسلامية متشددة كان نفوذها الاجتماعي لافتا في فترة سابقة.
استفادت الكنيسة المصرية من اهتمام النظام المصري الراهن بالبعد الاجتماعي والسعي لتحسين أوضاع البسطاء، وبدأت تقوم بدور يبدو موازيا لما تقوم به الحكومة عبر برامجها المتنوعة لتخفيف المعاناة على كاهل شريحة كبيرة من الفقراء.
في الوقت الذي نظرت فيه الحكومة إلى النشاط الاجتماعي للكنيسة على أنه مكمّل لها ويرفع عنها عبئا ماديا يوجه إلى شريحة من المسيحيين، خشي مراقبون أن يتحول إلى كرة لهب عقب قيام الحكومة بكبح الجماعات الإسلامية في الشارع وقطع الطريق على أنشطتها الاجتماعية وحصرها في المؤسسات الرسمية التابعة للدولة مباشرة.
ويشير المراقبون إلى أن فتح الفضاء الاجتماعي العام أمام الكنيسة المصرية يمكن أن يكون بابا للفتنة بين مسلمين متشددين خسروا نفوذهم في الشارع، وبين مسيحيين يتعاظم نفوذهم في المقابل تحت سمع الحكومة وبصرها.
حكومات سابقة تعرضت لانتقادات بسبب رضوخها لتنظيمات سلفية سمحت لها بالنشاط الاجتماعي، بينما ضيّقت على الكنيسة
تعرضت حكومات مصرية سابقة لانتقادات حادة بسبب ما كان يوصف برضوخها لتنظيمات سلفية وجماعة الإخوان حيث سمحت لهما بالنشاط الاجتماعي وسط كتل شعبية مختلفة، بينما ضيّقت الخناق على الكنيسة وحصرت دورها داخل جدرانها.
ويفسر المشهد المعكوس حاليا بأن الحكومة أرادت طمأنة قيادات الكنيسة بحرية العمل الاجتماعي علنا ووفقا للقانون، وردّ الجميل لهم على ما قاموا به من مساندة للنظام المصري أثناء المواجهات المحتدمة التي خاضها ضد جماعة الإخوان والمتطرفين.
ولا تخلو المساحة التي تكتسبها الكنيسة للتحرك الاجتماعي من أهداف سياسية خارجية في أجندة الحكومة حيث توحي بأنها داعمة للأقباط على خلاف مواقف صارمة اتخذتها حكومات سابقة ضد تمدد الكنيسة اجتماعيا.
ويدعم هذا التوجه الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي دشنتها الحكومة مؤخرا، وتحاول من خلالها تقليص المفهوم السياسي للحقوق الذي تتبناه الدول الغربية لصالح توسيع المعنى الاجتماعي الشامل الذي يمنح الكنيسة المصرية حرية واضحة للعمل.
وبدأت الكنيسة المصرية مشروعات تقوم على تقديم مبادرات اجتماعية على غرار “بنت الملك” وتهتم بتلبية احتياجات الفتيات وتزويجهن، و”علّم ابنك” وتهدف إلى رفع المستوى الدراسي والتعليمي للطلبة ومعها مشروع مصاريف التعليم ويقدم لغير القادرين من الراغبين في التعليم، و”شنطة البركة” وتتعلق بتقديم مواد غذائية للفقراء.
ويلاحظ المتابعون أن هذه الأسماء والأدوار التي تقوم بها قريبة الشبه بما كان يقوم به سلفيون وإخوان، وأسهم في زيادة نفوذهم في القاعدة العريضة من المسلمين، ما يعني أن الحكومة يمكن أن تفاجأ لاحقا بتطرف شريحة من المسيحيين ربما تمثل خطرا على الدولة، وتخل بالتوازنات التي أقامتها على مدار عقود طويلة، وكانت فيها فئة من المتشددين قد نشأت في غالبيتها بعيدا عن سيطرة الكنيسة.
وحذر المتابعون من مخاطر النتائج التي يحملها تصنيف العمل الاجتماعي على أساس ديني، فقد يتحول إلى قنبلة تنفجر داخل الكنيسة نفسها التي تدعو إلى التسامح، وفي وجه الحكومة التي تسعى لحل مشكلات الفقر، فالتفرقة الدينية أيضا يمكن أن توجد احتقانا بين الأغلبية المسلمة في ظل السخاء الذي تغدقه الكنيسة على أتباعها.
وأطلقت لجنة خدمة المرأة المنبثقة عن لجنة الأسرة بالمجمّع المقدس مبادرة جديدة باسم “أميرتي” لزيادة التوعية للسيدات وحثهن على فهم طبيعتهن بغية تقدمهن إلى الأمام في حياتهن، وهو ما يعني تنويع العمل الاجتماعي وتوسيع الأنشطة.
وشرعت اللجنة في تنظم لقاء أونلاين كل يوم جمعة بدءا من العاشر من ديسمبر الجاري لمدة ثلاثة أسابيع مهمته توعوية، ناهيك عن برنامج يحمل اسم “أمان” يضمن معاشا مستقبليا لأصحاب الحرف في سن من 40 إلى 50 عاما.
يشرف على برنامج الرعاية الاجتماعية الكنسي القمص بيشوي شارل، ومنصبه الرسمي في الكنيسة سكرتير البابا للرعاية الاجتماعية، ويتيح لأساقفة الإيبارشيات الإشراف على أموال التبرعات دون رقابة، فكل أسقف مسؤول عن إيبارشيته وما تتلقاه من تبرعات، وكل إيبارشية تضم مجموعة من الكنائس تقع في نطاق جغرافي.
ويقول خبراء في الشؤون الكنسية إن برنامج البابا تواضروس للرعاية الاجتماعية يهدف إلى ضبط التبرعات ومنع تسريبها في غير أغراضها، وتم تأسيس قاعدة بيانات تضم كشوفا بأسماء “إخوة الرب”، وهم المحتاجون، حسب تعبير الإنجيل.
وتوزع المعونات بنظام يسمى “كشوف البركة” ويحصل المحتاج على التبرع ماديا أو عينيا بشكل يحافظ على كرامته، وتم تخصيص 30 في المئة من أموال كل كنيسة للفقراء الذين أصبحت لهم أولوية في اهتمامات البابا تواضروس بابا الأرثوذوكس وبطريرك الكنسية المرقسية، والباقي يوزع كالتالي: 30 في المئة للإدارة والمرتبات ومثلها للمباني، والنسبة الباقية للطوارئ.
فتح الفضاء الاجتماعي العام أمام الكنيسة المصرية يمكن أن يكون بابا للفتنة بين مسلمين متشددين خسروا نفوذهم، وبين مسيحيين يتعاظم نفوذهم تحت سمع الحكومة وبصرها
ومددت الكنيسة نشاطها إلى مجالات مختلفة، حيث دشنت الكنيسة الأرثوذكسية مبادرة لمجابهة التغيرات المناخية بالتعاون مع مؤسسة “شباب بتحب مصر” والتحالف الأفريقي للمناخ و300 كاهن من المختصين بالرعاية الاجتماعية في كنائس الصعيد.
وأعلن البابا تواضروس عن مسابقة زراعة الأشجار بالكنائس والإيبارشيات بما لا يقل عن مئة شـجرة وتوثيق هذه الأنشطة باسم الكنيسة والإيبارشية التي تقام فيها كتعبير عن دور الكنيسة النشط في مجال الحفاظ على البيئة.
وتحاول الكنيسة إضفاء قدر كبير من الشفافية على أنشطتها، مستفيدة من مساحة الثقة بينها وبين النظام المصري، وقطع الطريق على من يشككون في دورها الاجتماعي وحرف الأهداف عن المسار المعلن الذي تقدمه الكنيسة.
وتنشر الكنيسة بيانات رسمية تحوي أسماء المتبرعين كنوع من الشفافية وكي لا يتم تفسير الأمر على أن الكنيسة تتلقى مصروفات سرية من جهات مجهولة أو تحمل أجندة خفية، خاصة أن لائحة الكهنة ومجالس الكنائس تضم نظاما رقابيا يضمن عدم السماح بالتلاعب، ويتم تعيين مراقب للحسابات من خارج مجلس الكنيسة لمراجعة القوائم المالية السنوية لكل كنيسة وتقديم تقرير سنوي لرئاسة الكنيسة.
مع ذلك طالب مهتمون بشؤون الكنيسة بالفصل بين العمل الإداري والشؤون المالية عن العمل الروحي وشؤون الكهنة، ومنع التداخل الحاصل بين الجانبين، لتفريغ العمل الاجتماعي من أيّ توجه ديني أو سياسي ربما يكون مكلفا للكنيسة.
وفي ظل قلق مكتوم من تزايد الأنشطة الكنسية قد يجد البعض من المتشددون فرصة في التداخل للضغط على الحكومة وينكأ بعض الجروح القديمة ويفتح الباب لفتنة نجحت الدولة في تطويقها، ولا يوجد استعداد للعودة إليها حاليا.