الحكومة المصرية تسمح للمجتمع المدني بتلقي تمويل وفقا لضوابط

القاهرة - تستنفر الحكومة المصرية جهودها لمواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة، وتبنت أخيرا خطوات مرتبطة بتوسيع نطاق عمل الجمعيات الأهلية واتخذت مسارا جديدا، سعت من خلاله لتحسين صورتها بإعادة رسم العلاقة مع المجتمع المدني على وقع التحديات الراهنة، وتكريس رؤيتها المرتبطة بأن المنظمات الحقوقية معنية بالعمل الخدمي وليس السياسي فقط.
ونشرت الجريدة الرسمية قرارا يقضي بالسماح للجمعيات الأهلية بإنشاء مدارس، وتطرقت تصريحات مسؤولين كبار إلى أن الحكومة تعوّل على المجتمع المدني لمساعدتها في التنمية ومواجهة الفقر وتحسين الأوضاع المعيشية. وأصبحت الحكومة على قناعة أنها لن تستطيع وحدها مواجهة الأزمات في علاقتها مع الشارع دون مساندة المجتمع المدني، ما يجلب لها مكاسب سياسية مرتبطة بغلق ثغرات كانت تنفذ منها حكومات غربية للضغط عليها بورقة تحجيم العمل الأهلي.
وبدت الإشادة بالمجتمع المدني في مصر عبارة حاضرة على ألسنة البعض من المسؤولين، ما يعكس التغير في رؤية الحكومة للمنظمات العاملة في هذا المجال من منطلق أنه طالما هناك عمل منظم وتحت أعين الأجهزة المعنية لا مانع من مشاركتها الدولة. وقالت وزيرة التضامن نيفين القباج إن العلاقة بين الحكومة والمجتمع المدني اختلفت عن الماضي، وكانت هناك تشريعات تضيّق على العمل الأهلي، لكن الأمور أصبحت مرنة وثمة هدف تشاركي بين الطرفين.
وفسرت دوائر سياسية زيادة التقارب مع المجتمع المدني بأن الدولة تخلصت من المنظمات الأجنبية التي كانت تتلقى تمويلات خارجية لأهداف سياسية، ونجحت في غلق الجمعيات التابعة للإخوان والسلفيين، ولا توجد مخاوف من حرية العمل الآن. وارتاحت الحكومة لخفوت صوت المنظمات التي تتاجر بالقضايا السياسية والأمنية، مقابل زيادة حضور الجمعيات المعنية بالشق التنموي المرتبط بالتعليم والصحة وتوزيع المساعدات على البسطاء، ما رفع جزءا من عبء امتصاص غضب الشارع، في ذروة عجز الحكومة عن تقديم خدمات مُرضية.
وسبق خطوة إفساح المجال أمام المجتمع الأهلي للمزيد من الإجراءات التنموية، تحرك آخر استهدف تحسين صورة الحكومة خارجيا من خلال الإفراج عن نشطاء وحقوقيين وصحافيين، وتبرئة منظمات اتهمت في قضية “التمويلات الأجنبية المشبوهة”. ويشير التطور الجديد إلى أن الحكومة اعترفت بدور مؤسسات العمل الأهلي المحوري في التنمية ويفترض التعامل معها على هذا المشاركة، وليس بحساسية سياسية في ظل حاجة الدولة إلى المجتمع المدني لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتأزم، ويصعب إثبات نوايا الحكومة في هذا الملف من دون إجراءات على الأرض.
وتدرك القاهرة أن التشدد في قضايا المجتمع المدني وتضييق الخناق على منظماته يعرضها لخسائر على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فقد تخسر القيمة المضافة التي تقدمها الجمعيات الأهلية للمجتمع، وتعرض نفسها لحرج بالغ مع حكومات غربية تتعامل مع مصر بشك في ملف حقوق الإنسان، بينما هي شريك إقليمي مهم.
وأكد رئيس مؤسسة “ماعت” للسلام والتنمية وحقوق الإنسان أيمن عقيل أن المجتمع المدني والحكومة متقاربان في الشق التنموي، وفي ظل الأزمة الاقتصادية وأحداث غزة أصبح دور المنظمات التنموية والإغاثية أعلى من الحقوقية، فالناس يحتاجون إلى المأكل والمشرب والدواء، بالتالي أصبح الملف الخاص بالإغاثية أهم من الملف الحقوقي.
وأضاف لـ”العرب” أن المواطن يبحث عن مواجهة الفقر وتحسين الخدمات، والتأثير في الملف الحقوقي تراجع لأن بعض الحكومات الغربية التي تغنت بالحقوق تنتهك حقوق الإنسان على مستوى الحريات، ومصر لها خطوط حمراء في تحويل المنظمات الأهلية إلى مؤسسات سياسية، وهي مرتبطة بصميم الحفاظ على الأمن القومي.
وتبدو بعض مؤسسات المجتمع كأنها استسلمت للوضعية التي تريدها الحكومة للحفاظ على حضورها في المشهد، وتركز جهودها على الشق التنموي بعيدا عن القضايا الحقوقية والملفات التي تلامس السياسة، وهي صيغة مقبولة لدى الطرفين وسط التحديات الحالية، وعدم ملاءمة الأجواء للعب على وتر الأزمات واستغلالها سياسيا.
◙ التشدد في قضايا المجتمع المدني وتضييق الخناق على منظماته يعرضان الحكومة لخسائر اقتصادية وسياسية
وحسم النظام المصري أمره بأن يكون دور المنظمات الحقوقية والأهلية تنمويا كي لا يتحول عمل المجتمع المدني إلى قناة بديلة للأحزاب السياسية الضعيفة وبلا تأثير حقيقي في الشارع، ولا تصبح بابا تنفذ منه تيارات مناوئة مثل جماعة الإخوان التي كانت تستثمر في العمل الأهلي لإعادة تشكيل قواعدها الجماهيرية عبر المساعدات.
وبينما تعاني الحكومة من شح في الاستثمارات التي تجلب العملة الصعبة وما ترتب على ذلك من تراجع في الاحتياطي من النقد الأجنبي، رأت أن إعادة الملايين من الدولارات التي كانت مخصصة لمجالات تنموية بفعل انسحاب منظمات حقوقية لن تعود مرة أخرى سوى بالمزيد من المرونة في التشارك مع المجتمع المدني.
وتفرض الحكومة قيودا صارمة على عمل المنظمات الأجنبية التي تحصل على تمويل أجنبي، حيث يتطلب تلقي المساعدات موافقة الجهة المختصة في وزارة التضامن، مع تحديد أوجه الإنفاق حتى لا يتم استغلال الأموال في دعم أنشطة ذات بعد سياسي. والواضح أن الصرامة في التعامل مع المنظمات الأهلية مستمرة، كي لا تسمح الحكومة بانحرافها عن مسارها المجتمعي بدليل مواصلة القيود المفروضة على التمويلات.
وتنطلق مخاوف الحكومة من فتح المجال على مصراعيه بلا ضوابط أمام منظمات المجتمع المدني من وجود سوابق وقناعات رأت فيها تدخلا سافرا تحت لافتة المجتمع المدني لإحداث توترات سياسية في البلاد، بعضها كان له دور في تأجيج الاحتجاجات، وكانت تتلقى أموالا أجنبية أثناء ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013.
وينتقص من مرونة الحكومة في إدارة خلافها مع المنظمات الأهلية أن تكون أكثر عقلانية في التمييز بين العمل الحقوقي والتآمر والتخريب والعمل لحساب تنظيمات متطرفة لها أهداف سياسية مريبة، لأن استمرار بعض التعقيدات بدعوى التخوف من تهديد الأمن يعرقل الاستفادة من التمويلات الأجنبية التي تستهدف الشق التنموي وتحسين الأوضاع الاجتماعية في بعض المناطق الفقيرة.