الحكواتي يوطّد أواصر المجتمع العراقي

إسماعيل، فنان مسرحي يجوب أزقة الموصل القديمة ليقص بأسلوبه الخاص حكايات تاريخية وشعبية في الشهر الفضيل.
الأربعاء 2019/05/29
حكايات الماضي لتجديد الحاضر

الموصل (العراق) – “كان يا ما كان في قديم الزمان”… هكذا يبدأ الحكواتي عبدالواحد إسماعيل قصته في كل ليلة رمضانية في أحد مقاهي الموصل حيث يشهد هذا التقليد الذي راج في الستينات زخما متجددا إلى جانب أنشطة ترفيهية أخرى تحيي ليالي رمضان، موطّدة التلاحم الاجتماعي في العراق.

بعد المعارك الدامية التي شهدها العراق على مدى نحو أربع سنوات، عاد شهر رمضان ليصبح مساحة لقاءات تعيد البهجة لسكان البلاد.

وبين أزقة الموصل القديمة التي لم تنفض عنها غبار الحرب بعد، يجوب إسماعيل (70 عاما) -وهو فنان مسرحي معروف بين أبناء المدينة- مناطق عدة ليقص بأسلوبه الخاص حكايات تاريخية وشعبية في الشهر الفضيل، تلقى آذانا تتوق للعودة إلى أيام الزمن الجميل.

ويقول الحكواتي أو الـ”قصخون” كما يسميه أهل الموصل مرتديا دشداشة طويلة مع كوفية صفراء على الكتفين وطربوشا أحمر على الرأس “عشت عصورا عدة، فأحاول نقل صورة جميلة خاصة للشباب”.

يجلس إسماعيل على أريكة عالية في ساحة خصصت لهذا الغرض، وفي يده المايكروفون، ويبدأ بقص رواياته بأسلوب تمثيلي جميل، ولكن بأنفاس متقطعة لكبر سنه.

ولطالما اشتهرت شخصية الحكواتي في القدم بنقل الأخبار والسير التاريخية التي شكلت وعيا وثقافة لدى المجتمعات في تلك المرحلة الزمنية.

لكن إسماعيل يسعى اليوم إلى ربط الماضي بالحاضر؛ فيقص مثلا سيرة عنترة وعبلة الشهيرة في الموروث العربي، ويحاول ربطها مع ما يلهي الشباب اليوم من ألعاب إلكترونية، كالـ”بابجي”.

يتحلق حوله رجال وشبان وأطفال، يرتدي بعضهم أزياء شعبية تراثية، تخترق تسمرهم في بعض الأحيان أصوات باعة القهوة والعصير المتجولين، أو فواصل استراحة بأغان شعبية قديمة لزيادة التشويق.

محاولات لتوظيف ثقافة الماضي في معالجة المشاكل وإعادة الأواصر المجتمعية التي تفككت في العراق

بدأ العصر الذهبي للحكواتي قبل قرون عدة أيام الحكم العثماني، لكنه راح يندثر في ستينات القرن العشرين مع ظهور وسائل أخرى للمتعة من الراديو إلى التلفزيون.

ويقول أحد الحاضرين ويدعى قيس قاسم (71 عاما) “عشت الليلة لحظات من التاريخ الجميل”.

ويضيف قاسم الذي يضع عكازيه إلى جانبه “عندما كنا أطفالا، كنا نجلس في الزقاق على ضوء الفانوس، ونستمع إلى حكايات عجوز موصلية تتقن سرد القصص”. أما اليوم فقد تغيرت الأزمان، بحسب وصفه، و”باتت التقنيات الحديثة حاجزا بين الماضي والحاضر”.

هذه التقاليد الرمضانية حاضرة بقوة أيضا في مدينة كركوك المتعددة الإثنيات في شمال العراق؛ فبعد يوم الصيام، تتوجه غالبية السكان إلى مقاهي المدينة للعب “الظرف والصينية” الرمضانية الحماسية الشهيرة في المنطقة.

تستمر هذه اللعبة طوال الليل حتى وقت السحور، وتتخللها حلقات دبكة وأغان فلكلورية باللغات العربية والكردية والتركمانية، وهي اللغات الرئيسية التي يتحدث بها أهالي كركوك.

يعود تاريخ اللعبة إلى عشرات السنين، ويمارسها رجال وفتيان كركوك في أكثر من 150 مقهى تتوزع في أحياء المحافظة. ورغم ارتفاع درجات الحرارة، يحتشد المئات من اللاعبين والمشاهدين يوميا في هذه المقاهي،  يقول الشاب الكردي شانو عسكر (30 عاما) إن “هذه اللعبة تسمى لعبة القوميات، لأنها تجمع كل القوميات هنا”. تشبه لعبة “الصينية” لعبة “المحيبس” التي يمارسها العراقيون في شهر رمضان في باقي أنحاء العراق.

لعبة المحيبس هي من أكثر الألعاب شعبية خلال شهر رمضان. وتدور اللعبة بين فريقين، يخفي الأول خاتما في قبضات أفراده وعلى أفراد الفريق الثاني العثور عليه. وفي كل مرة يتم العثور على الخاتم تحتسب نقطة لمصلحة هذا الفريق أو ذاك.

وسيلة تواصل لا تموت
وسيلة تواصل لا تموت

أما لعبة “الصينية” فهدفها العثور على نرد يوضع تحت فنجان من بين مجموعة فناجين قهوة تتنقل على طبق بين المشاركين في اللعبة.

يوضح رعد العزاوي -وهو صاحب أحد المقاهي في حي الإسكان وسط كركوك- أن “في كل مباراة يتنافس فريقان يتألف كل واحد منهما من ثلاثة لاعبين يتبادلون الأدوار للبحث عن النرد المخفي تحت واحد من بين 11 كأسا نحاسية” وضعت في صحن معدني كبير يطلق عليه اسم “الصينية”.

ويقوم أحد لاعبي الفريقين بطلاء قاعدة “الصينية” بمادة السكر المذاب مع الماء قبل توزيع الكؤوس عليها، لينطلق بعدها الفريق الخصم برحلة البحث عن الخرزة أو النرد تحت واحدة من تلك الكؤوس.

ويفوز الفريق الذي يستطيع العثور على النرد بعد البحث في أقل عدد ممكن من الكؤوس، حيث أنه في كل مرة يعثر عليه تحتسب الفناجين الباقية في “الصينية” نقاطا، والفوز يكون من نصيب من يبلغ النقطة 101 أولا.

كل تلك التجمعات تصب في خانة إعادة الأواصر المجتمعية التي تفككت في العراق على مدى أربعة عقود من الحروب المتتالية.

ويقول الباحث الاجتماعي سعد أحمد، إن هذه محاولات “لتوظيف ثقافة الماضي في معالجة مشاكل اجتماعية أفرزتها الظروف”.

ويشدد أيضا على أن “إحياء جانب من الطقوس الرمضانية المنقرضة، يؤكد أن التقدم التكنولوجي لن يطغى أبدا على جمال الماضي”.