الحقيقة والافتراء في عصر الذكاء الاصطناعي

كيف تُشكّل التقييمات الإلكترونية مستقبل التسوق عبر الإنترنت.
الجمعة 2025/06/20
المستهلك أول خط دفاع ضد التضليل الرقمي

صعود الذكاء الاصطناعي، رافقه استخدام تقييمات مضللة حول المنتجات بهدف خداع المستهلك. يفرض هذا الواقع تحديًا جديدًا، حيث تتصارع التكنولوجيا على الكشف عن الحقيقة أو حجبها، وهو ما يتطلب وعيًا نقديًا لضمان مصداقية المعلومات وتوفير بيئة تسوق آمنة وعادلة.

لندن – التسوق الإلكتروني أصبح ظاهرة عامة؛ نصف عمليات الشراء اليوم تتم عبر الإنترنت، إن لم يكن أكثر. من الطعام إلى العطور إلى الملابس والسلع الإلكترونية والسيارات وحجز العطلات وتذاكر السفر. دليلنا في كل  ذلك التقييمات التي تنشر وبناء عليها نتخذ قرار الشراء. في الظاهر، يبدو أن تقييمات المستخدمين تُظهر صورة دقيقة وشفافة عن جودة المنتج، ولكن هناك واقع آخر. الكثير من هذه التقييمات قد لا تكون سوى صفحات مزيفة أو مبالغ فيها لصالح بائع أو منافس معين. ومع ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي، تفاقمت مشكلة موضوعية تقييمات المنتجات التي يواجهها المستهلكون، وأصبح من الضروري النظر في أبعاد هذه الظاهرة وتأثيرها على ثقة المستخدمين وأسواق التجارة الإلكترونية.

مع بداية انتشار التسوق الإلكتروني، كانت التقييمات مكتوبة من قِبل مستخدمين حقيقيين، وتُعطي انطباعًا صادقًا عن تجاربهم مع المنتج. كثيرا ما نجد أنفسنا نقارن بين مئات التقييمات حول سلعة معينة. هذه التجربة تجعلنا نعتقد أن المراجعات توفر مرآة واقعية لتعكس جودة المنتجات من مستويات مختلفة، لا يمكن أن يكون هذا العدد من الأشخاص على خطأ. ولكن، مع تطور التكنولوجيا، باتت لدينا أدوات متقدمة قادرة على خلق تقييمات جديدة تبدو وكأنها صادرة عن بشر، يستغلها بعض التجار لصالحهم، أو يقوم منافسون بتوظيفها لتشويه سمعة المنتجات المنافسة، متجاوزين بذلك الدور الحقيقي للتجربة البشرية.

من المؤكد أن إستراتيجية استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال التسوق الإلكتروني تحمل إيجابيات وسلبيات

عندما تتصفح ما كتب عن سلعة أو خدمة تريد شراءها مستقبلا فكر ألف مرة قبل أن تتخذ القرار، فالتقييمات الوردية قد تكون، غالبا، صادرة عن روبوتات وليس عن البشر.

وفق جمعية صناعة تكنولوجيا المعلومات الألمانية “بيتكوم”، فإن الذكاء الاصطناعي سيلعب دوراً متزايد الأهمية في تقييمات المنتجات في المستقبل. في الوقت الذي يتيح فيه هذا التقدم إمكانية إنتاج مئات التقييمات بشكل سريع وبأسلوب يبدو سلسًا وطبيعيًا، يخشى الكثير من تجار التجزئة أن يؤثر طوفان التقييمات المضللة والمزيفة على أعمالهم. فبدلاً من أن تقدم المنصات النصيحة الصادقة للمستهلك، تصبح بعض منصات التجارة الإلكترونية ساحة حرب تتنافس فيها الشركات على الفوز برأي الجمهور بأساليب قد لا تعكس الحقيقة.

وبينما يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج تقييمات تبدو صادقة ودقيقة، فإن الذكاء الاصطناعي نفسه يمكنه أيضًا اكتشاف التقييمات المزيفة المنتجة باستخدام نفس التكنولوجيا. وقد أعلنت بعض الشركات العاملة على منصات التجارة الإلكترونية أنها ستعتمد بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي لتحليل نصوص التقييمات والبحث عن أنماط متكررة وغير طبيعية، مما يساعد على حذف التقييمات التي لا تعكس تجارب حقيقية. وهذه الخطوة تمثل محاولة لإعادة الثقة في البيئة الرقمية التي يعتمد فيها المستهلكون على التقييمات لاتخاذ قراراتهم الشرائية.

على الرغم من التحديات التي تواجه المستهلكين، ينصح الخبراء بالحذر عند قراءة التقييمات الإلكترونية. فإذا لاحظ المستخدم تشابهًا شديدًا بين تقييمات متعددة لنفس المنتج، فقد يكون ذلك مؤشرًا على احتمال تزوير التقييمات. كما يجب ألا يترك المستهلك رد فعله يعتمد فقط على كثرة التقييمات السلبية، إذ إنها، في الكثير من الأحيان، قد تكون نتيجة حملات مضادة من قبل منافسين أو جهات تسعى لتعزيز سمعة سلع معينة على حساب أخرى. في هذا السياق، تصبح القدرة على التمييز بين التقييمات الحقيقية والمزيفة أداة أساسية يتعين على كل مستهلك تطويرها مع مرور الوقت.

pp

من جهة أخرى، فإن التقييمات النصية المفصلة المصحوبة بصور يلتقطها هواة للمنتج تُعد من المؤشرات القوية على مصداقية التقييمات. فهذه التجارب الشخصية التي يرويها أفراد حقيقيون، تُضيف بُعدًا إنسانيًا يصعب تقليده، مما يجعلها مرجعًا أكثر واقعية مقارنة بالتقييمات التي تعتمد لغة التسويق والترويج، والتي غالبًا ما تكون مُنشأة لأغراض دعائية. إذ أن التقييم المزيَّف، وإن كان مكتوبًا بإتقان تقني، يفضح نفسه غالبًا من خلال لغة مبالغ فيها أو تفاصيل غير منطقية أو تصوير عام لا تتخلله المزيد من التفاصيل الشخصية.

وقد شهدنا مؤخرًا تجارب عدة لمستهلكين عبروا عن خيبتهم إثر الاعتماد الكلي على ما برّرته الإحصاءات الرقمية في تقييم المنتجات؛ ففي أحد المنتجات تم تسليط الضوء على عشرات الآلاف من التقييمات الإيجابية، بينما كانت التجربة الفعلية للمستخدمين عكس ذلك، مما دفعهم إلى البحث عن المزيد من الدلائل الحقيقة كالفيديوهات والصور المرفقة بالأوصاف التفصيلية. وهذا يدفع إلى التأكيد بأن معركة تحسين تقييمات المنتجات لم تتوقف عند إنتاجها بأعداد كبيرة فحسب، بل في تنقية هذه التقييمات وإبراز النقاط التي تعكس بالفعل تجارب المستخدمين الحقيقيين.

من المؤكد أن إستراتيجية استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال التسوق الإلكتروني تحمل إيجابيات وسلبيات. فمن جهة، توفر هذه التكنولوجيا إمكانية معالجة كمية هائلة من البيانات في وقت قصير، مما يساعد على تحديد وتصفية التقييمات المزيفة بدقة متناهية. ومن جهة أخرى، تفتح نفس التكنولوجيا الباب أمام من يسعون للاستفادة منها لإنشاء تقييمات مبهرة زائفة تُستخدم للتأثير على الرأي العام وجذب العملاء دون مراعاة لقيمة المنتج الحقيقية.

في ظل هذا المشهد الرقمي المضطرب، يصبح السؤال الأساسي الذي يواجه المستهلكين: كيف يمكن الوثوق بما يُطلق عليه قانون التقييمات؟ والإجابة ليست ببسيطة؛ إذ يعتمد الأمر على وعي المستهلك وتطوير قدراته على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مُصطنع. في نهاية المطاف، يُصبح المستهلك هو أول خط دفاع ضد التضليل الإعلامي الرقمي، إذ يتعيَّن عليه أن يُصقل مهاراته في مراجعة المحتوى الرقمي وأن يسأل نفسه عدة أسئلة حول مصدر التقييم وكيف تم تضمينه في نظام المنصة.

ولعل أحد الدروس المستفادة في هذه التجربة هو أن ثقة المستهلك لا يُمكن شراؤها أو بيعها بكل سهولة، بل هي نتيجة جهد مستمر لتحسين النظام الرقمي وتطوير آليات ضبط الجودة والتحقق من المصداقية. ففي الوقت الذي تعد فيه تقييمات المنتجات أحد أهم مصادر المعلومات عند التسوق عبر الإنترنت، لا بد من تكريس جهود مشتركة بين شركات التجارة الإلكترونية والجهات الرقابية لتقديم صورة شفافة وواقعية للمستهلكين. وهذا يتطلب استثمارًا في التكنولوجيا وفي تدريب الطواقم المسؤولة عن رصد وتحليل هذه التقييمات، وتحديد الآليات التي تضمن تفادي الظواهر السلبية كالتقييمات المزيفة.

oo

الذكاء الاصطناعي قد يُحدث ثورة في طريقة تقديم المعلومات للمستهلكين، لكنه في الوقت نفسه يتطلب تحديثًا دائمًا للآليات التي تسمح بالتحقق من هذه المعلومات. فالأمر لا يعتمد فقط على البرامج والتطبيقات، بل يستدعي وعي المجتمع الرقمي بأهمية الشفافية والمصداقية في عالم يُغمره الكم الهائل من البيانات، وأحيانًا يكون لتلك البيانات تأثير مدمر على قرارات الشراء وسلوك المستهلك.

ختامًا، يمكن القول إن تقييمات المنتجات الإلكترونية أصبحت سلاحًا ذا حدين: من جهة تُستخدم للوصول إلى معلومات دقيقة تساعد في اتخاذ القرار، ومن جهة أخرى تُستخدم لتضليل المستهلك وإضفاء صورة مغلوطة على الواقع. وفي ظل التحديات الراهنة، تظل مهمة كل مستهلك أن يكون على دراية بتلك الآليات المتطورة، وأن يمارس حذرًا نقديًا يتجاوز الثقة العمياء في الأرقام والتصنيفات. إن مستقبل التقييمات الرقمية يعتمد على مدى القدرة على تطوير منظومة تضمن الحيادية والشفافية، وفي هذا السياق سيلعب الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات الحديثة دورًا محوريًا في كشف الزيف وتعزيز الثقة في ما بينها.

وبينما نستمر في رحلتنا الرقمية، يتعين علينا أن نتذكر دائمًا أن التقييمات الواقعية لمنتج لا يُمكن استبدالها بآلات تصنع لنا تقييمات مصطنعة، وأن التجارب البشرية الحقيقية تبقى المرجعية الأهم لتحديد جودة المنتج قبل شرائه. إن المسار نحو نظام تقييم إلكتروني موثوق يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، من مطوري التكنولوجيا إلى المستهلكين أنفسهم، لتصبح قرارات الشراء استنادًا إلى مقاييس حقيقية لا مجرد أوهام رقمية.

12