الحرب في أوكرانيا تُفقد الأوراسيوية التركية بريقها

تواجه الأوراسيوية التركية وضعا صعبا بسبب الحرب في أوكرانيا؛ فهذا التكتل السياسي يعد الوحيد الذي دعا إلى دعمها في تركيا باعتبار تأييده القوي لعالم متعدد الأقطاب لا يهيمن عليه الغرب (الولايات المتحدة وحلفاؤها) فقط. لكن بعدالإخفاق الروسي في تحقيق مكاسب استراتيجية سريعة في الحرب التي بدأت في الرابع والعشرين من فبراير الماضي بات قادة الأوراسيوية في وضع معقد.
أنقرة – مع احتدام المعارك في أوكرانيا تجد الأوراسيوية التركية نفسها في وضع معقد بعد أن حضّت على دعم المساعي الرامية إلى بلوغ عالم متعدد الأقطاب.
لكن أنقرة تحاول الرقص على الحبل بين حليفين لها (موسكو وكييف) حيث تدعم الجيش الأوكراني، ورغم أن اجتماع الوفدين الأوكراني والروسي في إسطنبول خلال الشهر الماضي فشل في التوصل إلى اتفاقية سلام مازال صانعو السياسات الأتراك يصرون على أن بإمكانهم تيسير الحوار بين طرفي الصراع.
ثمة تكتل سياسيّ تركيّ واحد تبنى وجهة نظر مختلفة تمامًا عن الموقف الداعم للحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا؛ إذ يرى مناصرو الأوراسيوية في تركيا أن خسارة أوكرانيا مكسب لهم.
و”الأوراسيوية” مصطلح عام يشمل جماعات متباينة، من بينها الإسلاميون والقوميون اليساريون، والكثير منهم لديهم خلفيات عسكرية.
بوركو أوزسيليك: الحكمة التي تقوم عليها الاستراتيجية الأوراسيوية أصبحت محل تشكيك
وتتمحور أفكار هذه الجماعات حول عدم الثقة في الغرب، وإضفاء الطابع الرومانسي على التاريخ التركي بأكمله، ومناصرة دولة تركية وسطية قوية في نظام عالمي متحالف مع روسيا وإيران والصين والدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى من أجل بلوغ هدف واضح وهو كسر الهيمنة الغربية على العالم.
ومنذ انتخابات عام 2015، التي خسر فيها حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية، صار للقوميين المتطرفين في حزب العمل القومي وبعض الشخصيات في التكتل الأوراسيوي دور كبير في السياسة.
وفي تقرير جديد صادر عن المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية بعنوان “الأوراسيوية في تركيا”، يرى المحلل سوات كينيكليوجلو أنه ليس من السهل تصنيف الناخب الأوراسيوي لأن “ليس كل القوميين اليساريين أوراسيويين، وليسوا كلهم مؤيدين للحزب السياسي نفسه”.
وكتب كينيكليوجلو “على الرغم من قلة أعداد الأوراسيويين وضعف أدائهم الانتخابي، فإنهم يتمتعون بتأثير كبير للغاية في النظام البيروقراطي الأمني والقضاء، ويحاولون علنًا تشكيل النقاش الاستراتيجي في تركيا”.
وبينما كانت الدبابات الروسية تتقدم عبر الحدود الأوكرانية قال رئيس الحزب الوطني دوجو برينجك “توسع حلف الناتو باتجاه الشرق شكّل تهديدًا لتركيا”.
ووصف الغزو بأنه “سلاح روسي سيجلب السلام والاستقرار”، وحثَّ الحكومة التركية على مقاومة فرض عقوبات من “التعاون الأطلسي” على روسيا.
حتى وقت قريب كانت مثل هذه التصريحات تجذب المزيد من اهتمام حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي اعتمد على الأوراسيويين في الحصول على دعم.
أما اليوم، وبسبب التقارب بين التيارات السياسية، فقد تم تجاهل هذه التصريحات بشكل تام.
وقالت بوركو أوزسيليك -وهي زميلة باحثة ومُحاضِرة مُنتسِبة في جامعة كامبريدج- إن “إحدى الركائز التي قام عليها صنع السياسة الخارجية لأنقرة في السنوات الأخيرة هي الرغبة في ما يمكن تسميته بالحكم الذاتي الاستراتيجي، أي القدرة على التصرف دون التأثر بالآخرين”.
وأوضحت أوزسيليك أن “هذا المفهوم وجه السياسة الخارجية التركية إلى درجة أنه عند مواجهة تركيا خطر ابتعاد جيرانها عنها بسبب نزعتها الانفرادية غير المرنة في سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط، بدأت النخب الحزبية في الإشادة بالوحدة السامية للبلد”.
لكن خلال العامين الماضيين اتخذت تركيا خطوات ملموسة لإعادة علاقاتها مع الدول المجاورة؛ فحكومتها تواجه تضخمًا كبيرًا غير مسبوق (60 في المئة، وفقًا للأرقام الرسمية) وارتفاعًا في معدلات البطالة، إلى جانب انخفاض في قيمة العملة.
ولذلك فإن تحقيق مكاسب في الخارج يخفف بعض هذه الضغوط الداخلية ويضفي مصداقية على الحزب الحاكم، بحسب أوزسيليك.
ويبدو أن الاستراتيجية الجديدة لأنقرة تُطبِّع العلاقات مع الدول الأعضاء في الناتو والاتحاد الأوروبي، فضلًا عن الحلفاء الإقليميين مثل الإمارات وإسرائيل ومصر.
وأدى الاستقرار النسبي في الاقتصاد الكلي والإصلاح السياسي -إلى جانب الدور المتراجع للولايات المتحدة وغيرها من الدول التي لطالما كان لها نفوذ كبير- إلى منح وسطاء جددٍ بعضَ النفوذ، وهو الدور الذي تبدو تركيا حريصة على لعبه.
وقد أدت الإدانة الدولية لحرب روسيا إلى الإطاحة بالرؤية الأوراسيوية لنظام إقليمي يتحدى الهيمنة الغربية تحت قيادة تركيا وروسيا؛ فبينما تتأهب تركيا للانتخابات البرلمانية والرئاسية التي توافق الذكرى المئوية لإقامة الجمهورية التركية العام المقبل، ستتغير التحالفات المحلية التكتيكية الضعيفة، وسيكون نجاح السياسة الخارجية إحدى طرق تعزيز مكانة حزب العدالة والتنمية بين الناخبين الذين يأملون في التقليل من الخسائر التي شهدتها سمعة تركيا.
وهذا بدوره يمكن أن يسفر عن أرباح اقتصادية في شكل تطور واستثمار أجنبي جديد.
وبينما يواصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المطالبة بإصلاح الأمم المتحدة تحت شعار “العالم أكبر من خمسة” -في إشارة إلى الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة- تعكس السياسة الخارجية الجديدة لتركيا رغبة شديدة في اختيار إعادة الاندماج في النظام العالمي بدلًا من تعديل الوضع القائم.
وقالت أوزسيليك “الحكمة التي تقوم عليها الاستراتيجية الأوراسيوية الرئيسية، التي سعت لإعادة توجيه سياسات تركيا الخارجية والأمنية تجاه موسكو، أصبحت محل تشكيك في أنقرة إثر ارتكاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخطاء تقديرية استراتيجية واحدًا تلو آخر”.
لكن هذا يولِّد معضلة تتمثّل في وجود توتر بين السياسة التركية الداخلية ونظيرتها الخارجية؛ إذ يجتمع الناخبون الأتراك من جميع الأطياف السياسية حول رغبة قومية في رؤية تركيا مستقلة لا تدين بالفضل لأي جهة فاعلة خارجية. لذلك قد يمثل إقناع الناخبين الأتراك والقوميين المتطرفين العاملين في قوات أمن الدولة والنظام البيروقراطي -بمن في ذلك الجماعات الموالية لبرينجك- بمزايا عودة حزب العدالة والتنمية إلى صفوف حلفائه في أوروبا وعبر الأطلسي تحديًا آخر للحزب الحاكم.
وقالت أوزسيليك “الاتفاق الفضفاض مع الأوراسيويين كان اتفاقًا براغماتيًّا يهدف إلى تقوية قبضة الحكومة على السلطة. ومما يذكرنا بالقطبية الثنائية في حقبة الحرب الباردة، تبدو تركيا الآن مستعدة لاستعادة دورها كحليف رئيسي لحلف الناتو وجزء لا يتجزأ من الأمن الأوروبي”.
لكن إثر اقتراب موعد الانتخابات ستتوسع الحكومة في استخدام شعار “تركيا أولًا” الذي أثبت جدواه، مع الحرص على عدم إبعاد الناخبين الذين يرتابون من التدخل الأميركي في المنطقة.
ويعكس ذلك أن الحرب في أوكرانيا قد أضعفت سردية الأوراسيويين في تركيا، لكنها لم تقض عليها تمامًا.