الحارة القديمة في ظفار تشع بروح العمارة الإسلامية

الحنين إلى الماضي يشد العمانيين إلى بيوت الطين والحجر.
الخميس 2021/12/30
سحر في البساطة المعمارية

الحنين إلى الماضي يشدّ كل من غادر بيتا أو حارة عاش فيها ثم انتقل إلى المنازل والشوارع ذات العمارة المعاصرة والمتشابهة في أغلبها، لذلك يسعى العمانيون اليوم لترميم حاراتهم وبيوتهم القديمة ذات الطابع المعماري الإسلامي لتكون ملاذهم إلى تراث متفرد ونمط عيش بسيط بعيدا عن ضغط العيش في المدن.

ظفار (سلطنة عمان) - شهدت سلطنة عمان على مدار الأعوام الخمسين الماضية تحولًا لافتا في المظاهر الحضرية نتيجة انتقال المواطنين للعيش في المدن والأحياء السكنية الجديدة، مخلفين وراءهم أحياء وحارات تراثية.

وينظر الكثيرون إلى تلك الأحياء القديمة على أنها ذات قيمة تاريخية ومعنوية كبيرة ينبغي صيانتها باستمرار لتظل شاهدة على تراث الآباء والأجداد.

وتعد الحارات القديمة في محافظة ظفار جنوبي السلطنة مثالًا حيًا على أطلال كانت يومًا تضج بالحياة، قبل أن ينتقل قاطنوها من بيوت الطين والحجر إلى مساكن عصرية بنيت من الأسمنت والحديد.

لكن الحنين إلى الماضي دفع البعض إلى العودة إلى تلك المنازل من باب الترميم والصيانة كون جدرانها خير شاهد على تاريخ حافل بالأحداث وتخليدًا لذكرى من بناها.

ويقول الباحث في التاريخ سالم بن عقيل مقيبل إن “الحارة في ظفار هي جزء من الحارات في المجتمع الإسلامي العام”.

الحارة تتكون من مجموعة من البيوت تُبنى على شكل دائري أو مربع مصفوفة باتجاه الجنوب نحو البحر لتغيير هوائها

وأضاف مقيبل “العادة هنا في ظفار أن تكون مجموعة من البيوت مصفوفة باتجاه الجنوب لأنها جهة البحر، وذلك من أجل تجديد الهواء داخل البيت، وتبنى البيوت على شكل دائري أو مربع، بحيث يكون المسجد هو الملتقى لهذه الحارة”.

وتابع “نحن الآن أمام مسجد قديم هو مسجد عقيل تأسس عام 1774 ميلادي ويعتبر من أقدم المساجد في مدينة صلالة بعد تأسيسها، والأقدم منه هو المسجد الجامع”.

ورغم إعادة تأسيسه وبنائه من جديد قبل 10 سنوات، إلا أنه ظل محتفظا بالطراز الإسلامي القديم، بحسب مقيبل.

وأوضح الباحث أن “البيت في ظفار يتجه إلى الجهة الجنوبية باتجاه البحر، كما تتجه السدة الرئيسية أو مدخله الرئيسي إلى الجنوب من أجل الهواء، وكذلك تُصمم النوافذ بشكل مستطيل على الطراز الإسلامي مثل العكوف أو النقش على الحجر من أجل إدخال الهواء”.

كما يحتوي البيت من الداخل على فتحة غير مبنية، من أجل إدخال الهواء من الباب الرئيسي والنوافذ ثم إلى صحن البيت ومنه إلى كافة جنبات البيت من أجل التهوية.

وعن التناغم والخصوصية بين بيوت الحارة، قال مقيبل إن الجميل في بيوت ظفار هو أن جميعها منفصلة بحيث تُترك مسافة مترين تقريبا بين كل بيت وآخر تسمى “المغصوص” أو الممر، من أجل إدخال الهواء الطبيعي من البحر.

وأشار إلى أن هذا الممر يسمح للهواء بالدخول إلى البيوت الأخرى في الخلف، وهذا ما تتميز به العمارة الإسلامية.

ويرى الباحث أن “العمارة في ظفار جزء لا يتجزأ من العمارة الإسلامية المنتشرة في ربوع العالم الإسلامي”.

ولفت إلى أن “هذه البيوت بنيت من المواد المحلية التي تتكون من أحجار القص وهو حجر جيري يؤخذ من محاجر خاصة وبطين جيري يوضع عليه ماء لأكثر من أسبوع حتى يتخمر، ثم يلصق في هذا الحجر كالأسمنت”.

وأضاف “ثم يأتون بالنورة (الجبس الأبيض)، وتطلى بها واجهة المنازل، مثل هذا المسجد الذي نحن أمامه باللون الأبيض وهو طلاء أيضًا من النورة”.

تحف معمارية تحتاج إلى عناية
تحف معمارية تحتاج إلى عناية

وبيّن أن “جميع البيوت في ظفار وفي ربوع عُمان كلها على الطراز الإسلامي، وتُصمم على حسب المستوى الاقتصادي للشخص، فإن كان مستواه ضعيفًا تجد بيته مكونًا من غرفتين أو ثلاث للجهة الجنوبية والجزء المتبقي منه يكون مفتوحا، وفي الخلف يكون المطبخ ودورة المياه مبنية من الحجر”.

أما إذا كان الوضع المادي للمواطن جيدا أو لديه أسرة ممتدة الأفراد فقال مقيبل إن البيت في هذه الحالة يتكون من طابق أرضي ثم طابق ثان يسمى “المحايل”، وإذا كانت أسرة أكبر وأغنى، يبنى بالبيت طابق ثالث يسمى “القصور” ويخصص غالبا لرب الأسرة.

وأردف “أغلبية البيوت في العمارة الإسلامية تكون فيها دورة مياه واحدة تسمى (المطهر) وهي مشتقة من مصطلح التطهير، وتقع على الجهة الغربية أو الشرقية في الزاوية الشمالية للبيت بحيث إذا أتى الهواء من الجنوب إلى الشمال لا تتسلل الروائح الكريهة إلى جنبات البيت”.

وعن المواد المستخدمة في بناء البيت يقول مقيبل “أولا الحجر القص أو الحجر الجيري، ويبلغ عرضه تقريبا 30 سنتيمترا، وطوله ما يقارب نصف متر، وارتفاعه كذلك 30 سنتيمترا، بالإضافة إلى الطين الخطري والنورة”.

وتابع “أما بالنسبة إلى السقوف، فتستخدم أخشاب من أشجار خاصة تُجلب من الجبل إلى جانب أشجار النارجيل، إذ لا بد أن تكون هذه الشجرة معمرة بحيث أنها تعيش فترة طويلة”.

أدوات تقليدية تخلد تراث السلطنة
أدوات تقليدية تخلد تراث السلطنة 

ونوه إلى أن هذه الأخشاب توضع في السقف على هيئة أعمدة ثم تُغطى بعيدان أو ما يسمى بألواح “الركراك”، وتطلى بعد ذلك بزيت الحوت بحيث أنها تعيش فترة طويلة.

وفي حال ارتفع البيت إلى ثلاثة طوابق، حينئذ تُستخدم أغصان شجرة السدر القوية في الطابق الأرضي لتكون كدعامات لبناء البيت ليعيش فترة طويلة، كما أوضح.

وأشار مقيبل إلى أن أقدم بيت في ظفار عمره الآن 300 سنة ويوجد خلف مسجد عقيل.

وجدير بالذكر أن أحجار القص استخدمت على مدار سنين طويلة في عمليات بناء المنازل في السلطنة لما تتميز به من سهولة في النحت والتكيف مع البيئة المحيطة وقدرتها على عزل الحرارة والرطوبة، علاوة على جودة خامتها ومقاومتها لعوامل التجوية والتعرية نتيجة للتقلبات المناخية.

كما اعتمد بناء المنازل على هذا النوع من الأحجار في محافظة ظفار تحديدًا نظرًا إلى وفرة المواقع التي يمكن قطع الأحجار منها وسهولة نقلها إلى أماكن البناء.

ورغم تنوع أشكال الحارات نتيجة لاختلاف الجغرافيا والموارد الكامنة في كل منطقة، نجح العمانيون قبل مئات السنين في التغلب على تحدي الجغرافيا الصعبة، حيث بنيت الحارات على سفوح الجبال وفوق الهضاب وعلى التلال.

ويحركهم في ذلك البحث عن مصدر للمياه ليكوّن إلى جانب المسجد نواة رئيسية لبيوت الحارة التي ستأخذ طابع النسيج المعماري الذي تشكل بطريقة طبيعية بحيث تكون منتظمة ويحيط بها سور للحماية والدفاع.

18