الجمالي والفوتوغرافي

السرد يجد له متسعاً من الحوار والجدل في فوضى الحياة التي تخلق معها صورها المتقاطعة مثلما تفرز الكثير من نماذجها البشرية والإنسانية تحت هذه الوطأة من التعذيب القاسي.
الخميس 2018/07/05
كيف ستصمد الكثير من تلك السرديات مع الزمن وهي تتطابق مع الواقع (لوحة: شادي أبوسعدة)

إلى أين يمضي كل هذا التدفق السردي العراقي غير المسبوق على مر تاريخ الثقافة الوطنية؟ وما مدى صلابته زمنياً؟ وكيف له أن يستوعب ومن ثم يترجم معطيات واقع مثقَل بالخسارات والحروب والمناكفات بالطريقة الفنية التي تُبقي الآثار السردية إلى أزمانٍ متتالية؟

كيف يمكن للأدب بشكل عام أن (يوثق) بشاعة الحياة في أكثر حلقاتها إرهابا ودموية؟ وكيف سيصمد أمام المتغيرات الفنية المطلوبة مع تتالي العصور الأدبية وأجيالها المبدعة؟ ولنقل بوضوح: ما مدى صلاحية مثل هذا التدفق الكبير حينما ينتقل الزمن – فنياً- إلى مراحل أخرى في كل شيء؟

مثل هذه التساؤلات مشروعة نقديا لثقافة راهنة تعيش مرارات يومية متتابعة لأكثر من عِقد ونصف، وما يزال سيل الألم يتدفق من كل جانب وزاوية في الحياة بسبب السياسة السوقية التي خرّبت المجتمع وأذكتْ فيه نعرة الطائفية وزادت من جهل أجياله الجديدة تحت رايات متخلفة وبرامج شبحية وإعلامية ليس لها رصيد في واقع الحال.

منذ العام 2003 وحتى اليوم جرى تفكيك الدولة العراقية بشكل مبرمج، كما تم تفكيك المجتمع العراقي إلى مربعات ومثلثات طائفية وقومية وعِرقية ولم تساهم الثقافة العراقية إلا بالقدر اليسير لكشف هذه الأغطية السياسية ومتابعة خطورتها على مستقبل الحياة المحلية؛ فإذا كان الشعر قاصرا عن (توثيق) هذه المرحلة تحت بند الشرط الفني الذي تنادي به النظريات النقدية، فإنه لا يمكن إعفاء السرديات الروائية عن هذه (المهمة) الصعبة في توثيق حجم الخراب الاجتماعي الذي جاءت به السياسة من منافذ متعددة ومختلفة المشارب والنوايا والاتجاهات في صراع بدأ ولا ينتهي كما يبدو.

فالسرد يجد له متسعاً من الحوار والجدل في فوضى الحياة التي تخلق معها صورها المتقاطعة مثلما تفرز الكثير من نماذجها البشرية والإنسانية تحت هذه الوطأة من التعذيب القاسي، وبالتالي؛ أدبياً؛ لا تستطيع توثيق هذه المعادلات المتداخلة سوى الرواية بوصفها الفن الأكثر استيعاباً لجماليات الفن والأكثر تماسّاً مع الواقع في خيالاته الدموية وقسوته في تحديد المصائر الإنسانية.

 وهي الفن الأصعب في مواجهات الدخول إلى العالم الاجتماعي الشائك بكل ما فيه من أسباب ومعطيات ونتائج وصور وعلامات استفهام، لذلك فإنها فن الاتساع العمودي والأفقي الذي يستجلب من كل زاوية فقرة ويُخضعها إلى الحياة السردية مهما كانت الفقرة صغيرة أو مهملة أو لا تقع عليها العين الاجتماعية.

وبالتالي فالرواية التي تحيط بعالَمٍ تفصيلي كهذا تتمكن من أن تحاكمه وتشير إلى خرابه ونتائجه وتوثقه على بساط فني شاسع المحتوى في خطاب يمكن أن يبقى إلى وقتٍ طويل، موثّقاً تحولات المجتمع وأنساقه اليومية التي تغيرت بفعل برامج سياسية تثير الشكوك والأسئلة.

خرجت الرواية من معطف الواقع وبقيت تلازمه عصوراً طويلة، ولما لم يعد التصوير الواقعي مجدياً كثيراً لتشابهه في أزمنة وأمكنة مختلفة ومتباينة فتشابهت السرديات القائمة على الحبكات المعروفة، صارت الفنطازيا والخيال هما الحل لتحقيق موازنة فنية بين العجائبي / الغريب / المتخيل / والواقع الفوتوغرافي المحض / وهي موازنة مطلوبة لتحقيق الأثر الفني ثم النقدي الملائم بعيداً عن سلطة الواقع وفقراته المباشرة، تماماً كما صمدت الكثير من السرديات العالمية على مر الزمن كـ”الحرب والسلام” و”ليلة لشبونة” و”وداعاً للسلاح” و”المريض الإنكليزي” و”الثلج الحار” وكل الروايات التي عاصرت أحداث مجتمعاتها ووثقت الحياة فيها بخيرها وشرّها من دون أن تكون عليها سلطة مباشرة من الواقع سوى سلطة الفن.

وأمام فيض الإصدارات الروائية العراقية التي تُعد بالمئات سنوياً نعيد التساؤل النقدي المشروع: كيف ستصمد الكثير من تلك السرديات مع الزمن وهي تتطابق مع الواقع إلى حد استنساخه من دون متعة أدبية / فنية / ترجّح الجمالي على الفوتوغرافي؟

14