الجفاف "يسرق" الاخضرار من أرض نينوى

تل أبوالظاهر (العراق) – مها الدهان وراية الجلبي - ذات يوم من أيام شهر يونيو دبت الحياة لفترة وجيزة في أوصال محطة ضخ عملاقة للري في عمق بحيرة سد الموصل. اعتبر عاصم عبدالرحمن، المشرف على الوحدة وفريق المهندسين الصغير الذي يعمل معه من وزارة الموارد المائية العراقية، نجاح الاختبار لحظة نادرة تستدعي الاحتفال.
كانت محطة الضخ عاطلة عن العمل منذ 2014 عندما اجتاح مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية محافظة نينوى الخضراء القادرة على إنتاج نحو ربع المحصول العراقي من القمح. وعندما طردت القوات العراقية والقوات المتحالفة معها المتطرفين بعد ثلاث سنوات كانت المحطة لا تعمل وتدهور حال قنوات الري التي كانت تزودها بالماء.
وبرهن الاختبار الذي أجري في يونيو أن ثمة أملا في تشغيل محطة الضخ على أقل تقدير. وقال عبدالرحمن وهو يشير إلى أرض قاحلة “ليتكم استطعتم أن تشاهدوا هذه المنطقة من قبل. كانت الخضرة تفترشها على امتداد البصر”.
وليس تشغيل محطة الضخ سوى البداية، ففي العام الحالي جاءت الأمطار أقل من المعتاد. كما أن سدا تركيا جديدا ينذر بتقليص كميات المياه الواردة من نهر دجلة إلى بحيرة سد الموصل.
وبدأت نينوى تتحول إلى أرض قفر، ويقول المزارعون الذين عادوا إلى أراضيهم بعد فرار مقاتلي الدولة الإسلامية إنهم يشعرون بأن القادة العراقيين خذلوهم.
يتحدث عن ذلك هاني حبيب يوحنا المزارع من بلدة قراقوش المسيحية، مشيرا إلى أنه أنفق كل مدخراته لزراعة القمح في أرضه التي تبلغ مساحتها 125 هكتارا (حوالي 316 فدانا) هذا العام غير أن المحصول كان مأساويا. وقال متسائلا “الدعم؟ لا يوجد أي دعم من الحكومة هنا على الإطلاق. ولا ري ولا شيء على الإطلاق”. وبدأ البعض يستسلم مثل يوحنا الذي قال “لن أزرع شيئا بعد الآن. من أين آتي بالمال؟”.
القيادات السياسية العراقية مشغولة بصراعاتها الداخلية ولا تبدي اهتماما باحتياجات المزارعين في أماكن مثل نينوى
وتتردد أصداء شكواه في مختلف أنحاء البلاد التي تعاني من كلفة إعادة البناء بعد الحرب مع الدولة الإسلامية ومن نقص المياه الذي دفع محتجين إلى الخروج إلى الشوارع هذا العام. ولا يزال جانب كبير من مدينة الموصل التي تبعد 30 كيلومترا إلى الشمال الغربي من قراقوش عبارة عن ركام بعد مرور أكثر من عام على طرد المقاتلين منها.
وفي جنوب العراق الذي تعرض طويلا للإهمال خرجت مظاهرات غاضبة احتجاجا على نقص المياه. ووعدت الحكومة بتخصيص أموال للمساهمة في حل المشكلة. وتقدّر الحكومة الكلفة الإجمالية لإعادة بناء العراق بنحو 88 مليار دولار.
ويقول مزارعون في نينوى إن الوقت بدأ ينفد. وقال العشرات من المزارعين وتجّار الحبوب إن التقديرات الحكومية لإنتاج القمح في 2018 مفرطة في التفاؤل. وقال بعض المزارعين إنهم يفكرون في هجر الأرض. وانضم آخرون إلى فصائل مسلحة محلية من أجل الحصول على أجر منتظم.
وقال فاضل الزعبي، ممثل منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) المقيم في بغداد “إذا وجد المزارعون أنفسهم مدفوعين إلى البحث عن نمط حياة مختلف فكل الخيارات سيئة في الأساس سواء كانت التهريب أو التحول إلى التطرف أو التشدد أو الهجرة”.
ومن الممكن أن يخفف الري من آثار الجفاف غير أن منتقدين يقولون إن القيادات السياسية العراقية مشغولة بصراعاتها الداخلية ولا تبدي اهتماما باحتياجات المزارعين في أماكن مثل نينوى. وقالت زينب الطائي، عضو لجنة الزراعة والمياه والأهوار في مجلس النواب العراقي المنتهية فترة ولايته، إن وزارة الموارد المائية لا تبذل من الجهد ما يكفي لمعالجة نقص المياه. وردت الوزارة بأنها تعمل على تطهير المجاري المائية في نينوى وحفر آبار لمساعدة المزارعين.
ويقول منتقدون آخرون إن ضعف الكفاءة والفساد سبب إهدار الأموال في نينوى. ويحتل العراق المركز الـ169 بين 180 دولة على مؤشر الفساد الذي تنشره منظمة الشفافية الدولية. وقالت شروق العبايجي، عضو لجنة الزراعة بمجلس النواب، “إن الحكومات المتعاقبة أخفقت في وضع خطة شاملة لقضية المياه”.
ومع انكماش مساحات الأراضي الزراعية سترتفع كلفة واردات القمح العراقية. ويمثل ذلك عبئا إضافيا في الإنفاق في بلد لا يمكنه تحمل مصاريف إضافية. ويتوقع مجلس الحبوب العراقي هذا العام استيراد حوالي مليوني طن من القمح بكلفة نحو 1.5 مليار دولار.
الحرب والدكتاتورية
تقع محطة الضخ الكائنة في بحيرة سد الموصل في بداية شبكة الري بمشروع الجزيرة الشمالي والتي أنشئت قبل نحو 30 عاما بأوامر من صدام حسين. وقد عمل عبدالرحمن فيه منذ بدايته.
ومشروع الجزيرة الشمالي جزء من مشروع طموح للري كان هو الأكبر من نوعه في العالم العربي في ذلك الوقت، وكان من المقرر أن يضم منشأة جنوبية وأخرى شرقية. ولو أنه اكتمل لكفل ري 250 ألف هكتار (حوالي 618 ألف فدان) في سهل الجزيرة.
غير أن اجتياح العراق للكويت في 1990 أدى إلى فرض عقوبات دولية على العراق وانسحبت الشركات الأجنبية العاملة في مشروع الري مثل شركة هانيانج الكورية الجنوبية من العراق. وأٌهملت خطط إقامة المنشأتين الجنوبية والشرقية.
وعملت مضخة الشمال وحدها لتوفر للآلاف من المزارعين إمدادات مستقرة من المياه ومكّنتهم من زراعة الخضروات صيفا والحبوب شتاء. وغطت شبكة الري مساحة 60 ألف هكتار من الأرض الزراعية أي حوالي ربع مساحة الأرض القابلة للزراعة في نينوى.
وعندما أطاح غزو العراق بصدام حسين في العام 2003 لم يمس المنطقة التي تقع فيها محطة المضخة شيء يذكر نسبيا، بل إن عبدالرحمن يتذكر أن بعض القوات الأميركية استخدمتها كقاعدة بفضل موقعها حيث تختفي في إحدى التلال.
وقال عبدالرحمن “عندما جاء الأميركيون إلى هنا في 2003 وشاهدوا لوحة التحكم داخل التل كانوا يتندرون ويتساءلون “ما هذا؟ محطة نووية؟”. وفي 2012 تم استبدال اللوحة التي لا تزال معروضة في غرفة التحكم بجهازي كمبيوتر محمول (لابتوب). وفي صيف 2014 وصل مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية وفر عبدالرحمن إلى أربيل بإقليم كردستان العراق في الشمال طلبا للأمان.
بعض المزارعين يفكرون في هجر الأرض وآخرون انضموا إلى فصائل مسلحة محلية من أجل الحصول على أجر منتظم
وقال إن المتشددين حاولوا تشغيل المضخة وتسببوا في إلحاق أضرار بالمعدات لأنهم لم يكونوا على دراية بالأمر. ونهب مقاتلون كابلات من المحطة وأصاب العطب معظم المضخات الفرعية الأصغر بمشروع الجزيرة الشمالي والجسور والقنوات في معركة نينوى التي بدأت في العام 2016.
وعندما هدأ القتال ظهر صراع جديد، فالمحطة تقع في أرض يطالب بها أكراد العراق. وفي أكتوبر 2017 شنت القوات العراقية هجوما آخر واستردت السيطرة على المنطقة. وحين توقف القتال كان عبدالرحمن يتلهف لاستئناف العمل. غير أنه وجد مشهد دمار. وتقول الأمم المتحدة إن 100 قناة من قنوات شبكة الري البالغ عددها 280 قناة لا تزال عاطلة عن العمل.
وتمتلئ الكثير من القنوات بالركام والمتفجرات التي زرعها المتشددون في محاولة لاحتواء القوات الحكومية. وتم نسف 30 جسرا من الجسور المعدنية البالغ عددها 38 جسرا وتعرض 800 قسم من القناة المرتفعة للتدمير.
وشرعت الأمم المتحدة في إصلاح مشروع الجزيرة الشمالي بمساعدة مانحين دوليين. وتقدر التكلفة بما يتجاوز تسعة ملايين دولار بخلاف الإصلاحات اللازمة لمصنع محلي يتولى تصنيع مكونات الأنابيب.
وتقول الأمم المتحدة إن من الضروري بذل المزيد من الجهد من أجل ضخ المياه إلى المضخات الفرعية وفي شبكة القنوات. وقال الزعبي ممثل منظمة الفاو في العراق “في غضون عامين أو نحو ذلك نرجو أن نصل إلى مرحلة التشغيل”، لكن المزارعين يؤكدون أنه ليس بوسعهم الانتظار كل هذا الوقت.

ولم يتمكن سوى اثنين من المزارعين في قراقوش من زراعة القمح هذا العام. وقال أحدهما ويدعى توفيق عبوش (70 عاما) إن الفضل يرجع إلى شبكة الري الصغيرة التي أقامها قبل ثماني سنوات. وعندما انصرف مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية من مزرعة أسرته سرقوا معدات الري أو دمروها بما فيها المحركات اللازمة لتشغيل المضخات.
وباع عبوش ذهب الأسرة واقترض لإعادة بناء الشبكة. واليوم تعمل الشبكة من جديد لتروي زراعات عبوش من الشمام والخيار. وقال إنه ينفق نحو 250 دولارا كل شهر على الوقود والكهرباء لتشغيل المضخات وإنه لم يعد بمقدوره إنفاق هذا المبلغ دون مساعدة من الحكومة.
وخلال زيارتين قام بهما مسؤول بوزارة الزراعة في ديسمبر ومارس قال عبوش إنه طلب مساعدة مالية للاستمرار في الزراعة. وقال إنه لم يسمع ردا حتى الآن.
وانتقل بعض المزارعين إلى أماكن أقرب إلى الخزان المائي إدراكا منهم بأن فترة انتظار تشغيل مشروع الجزيرة الشمالي ستطول. ودفع صغار المزارعين الذين يزرعون الخضروات الصيفية أموالا للحكومة من أجل السماح لهم بتوصيل أنابيب إلى الخزان كبديل مؤقت لشبكة الري. وقال نايف محمد خلف الذي يزرع الطماطم والبطيخ في أرض مستأجرة “ما الذي يمكن أن نفعله غير ذلك؟”.
ويقول المزارعون إن الإجراءات الحكومية المعقدة تؤدي إلى تفاقم المشاكل، إذ يجري فحص حالات المزارعين المؤهلين للحصول على متأخرات عن الحبوب التي باعوها لوزارة التجارة منذ 2014 للتأكد من عدم وجود صلات تربطهم بتنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي يؤدي إلى التأخر في صرف الأموال. ويقول بعض المزارعين إنهم ما زالوا ينتظرون مدفوعات عن محاصيل عام 2014.
صوامع مهجورة
تتزايد الأعباء المالية على الدولة، ورغم أن العراق أعلن النصر على تنظيم الدولة الإسلامية فلا يزال المتشددون يمثلون خطرا، وتنفق البلاد المليارات من الدولارات كل عام على الأمن. كما ينفق العراق المليارات من الدولارات على برنامج من عهد صدام هو نظام التوزيع العام الذي توفر الدولة من خلاله الخبز وغيره من السلع الغذائية المدعومة للشعب.
ويتولى مجلس الحبوب في العراق مسؤولية شراء القمح وتوزيعه. وقال المكصوصي إن المجلس يتوقع أن يتسلم 350 ألف طن من القمح من أربعة مجمعات للصوامع في نينوى هذا العام. غير أن دريد حكمت، مدير الزراعة في نينوى، قال إن ما تم جمعه بحلول منتصف يوليو في عز موسم الحصاد بلغ 103 آلاف طن فقط.
وحتى عهد قريب كان تحسين حسين يعمل مديرا لمجمع بازوايا أحد مجمعات الصوامع الأربعة والذي يسع 250 ألف طن من القمح. وحدد مجلس الحبوب هدفا يتمثل في استلام 92 ألف طن من بازوايا هذا العام غير أن حسين قدر أنه لن يتسلم سوى نصف هذه الكمية وعزا ذلك إلى الجفاف.

وذات صباح في شهر يونيو بعد أسبوعين من بدء موسم الشراء كانت حوالي 20 شاحنة تقف في طابور خارج بازوايا محملة بالقمح المقرر اختباره وبيعه.
وقال مزارعون وتجار وأحد العاملين في الصوامع إن عدة مئات من الشاحنات تصطف في العادة أمام المنشأة في مثل هذا الوقت من السنة. وقالوا إن قدرا كبيرا من القمح من مناطق كردية يقل فيها المشترون الجاهزون للشراء. وقال عبوش “لا يوجد أي قمح يذكر في تلك المنطقة”.
وعلى مسافة ساعة ونصف الساعة بالسيارة من بازوايا تقع صوامع الوائلية التي أنشئت في العام 1989 وتبلغ سعتها 180 ألف طن من القمح. وهي اليوم مهجورة بعد أن أصابتها أضرار بفعل ضربات جوية خلال معركة نينوى. ولا يوجد بها سوى حارس وكلاب ضالة.
وعلى الممرات الواقعة بين الصوامع تشير أعلام بيضاء إلى المواقع التي تم نزع ألغام أرضية منها، بينما تحذر أعلام حمراء من مواضع الخطر. وقال عبدالعزيز صابر، المصري الذي يعمل حارسا ويعيش في العراق منذ 1989، إن “تنظيم الدولة الإسلامية أخذ مواقع في هذه الصوامع ولغّم الأرض من حولها”.
وثمة عقبة أخرى تقف في طريق إحياء الأرض الزراعية في نينوى. فمستوى المياه في بحيرة سد الموصل التي تغذي شبكة الري انحسر من مستوى 330 مترا فوق مستوى سطح البحر قبل الجفاف إلى نحو 306 أمتار الآن. وهو ما يمثل مستوى ضحلا لا يسمح بتشغيل محطة الضخ لمشروع الجزيرة الشمالي على مدار العام عندما يستأنف العمل بها.
ويحذر الخبراء من أن يؤدي سد إليسو التركي على نهر دجلة إلى زيادة الطين بلة. وبدأت تداعيات ملء سد إلسو تظهر على نهر دجلة في بغداد والموصل بانخفاض مناسيب المياه إلى حد كبير، وهو ما أثار رعب المواطنين من جفاف سيضرب مناطقهم ومحاصيلهم الزراعية. وبث ناشطون على الشبكات الاجتماعية مقاطع مرئية وصورا لنهر دجلة، إلى درجة بات بالإمكان عبوره مشيا على الأقدام.
ورغم كل هذه الأزمات والتحديات، يبقى عبدالرحمن متفائلا، فالاختبار الناجح بمحطة الضخ منحه الأمل.
وكانت الشركة الكورية التي أقامت مشروع الري قد قدرت أن العمر الافتراضي للمعدات يبلغ 25 عاما. وهو يقول إنه فخور بالحفاظ عليها لما بعد العمر الافتراضي. وقال “ما إن تستأنف العمل حتى ترى ما يمكن أن نجده هنا”.