الجزائر ومنطقة الساحل: من الوساطة إلى العزلة

الجزائر - في تطور جديد يعكس تحولات عميقة في موازين القوى بغرب أفريقيا، تواجه الجزائر أزمة دبلوماسية متفاقمة مع دول الساحل الثلاث (مالي والنيجر وبوركينا فاسو)، أعضاء التحالف العسكري الإقليمي الذي شُكّل بعد الانقلابات الأخيرة.
لكن ما يبدو كحادثة عابرة -إسقاط طائرة مسيّرة مالية- يخفي وراءه مؤشرات مقلقة على فقدان الجزائر نفوذها التقليدي في منطقة كانت تُعد امتدادًا طبيعيًا وعمقا إستراتيجيا لأمنها القومي.
وعلى مدى أكثر من عقدين نظرت الجزائر إلى منطقة الساحل باعتبارها “خط الدفاع الأول” ضد التهديدات العابرة للحدود، وعلى رأسها الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة.
وقد لعبت دورًا محوريًا في هندسة اتفاقات السلام في مالي (2015)، واحتضنت مفاوضات بين السلطات المركزية والجماعات المسلحة. لكن الانقلابات العسكرية المتكررة، وسياسات “التدويل الانتقائي” التي اتبعتها أنظمة الحكم الجديدة، وضعت الجزائر خارج اللعبة.
ويرى الباحث إسحاق بن حزيا في تقرير نشره موقع “مودرن دبلوماسي” أن الجزائر لم تعد طرفًا محوريًا في التفاعلات السياسية في الساحل، بل تحولت تدريجيًا إلى قوة خارجية غير مرغوب فيها، ضمن مشهد يُنذر بانهيار البنية الإقليمية التي بنتها الجزائر على مدى سنوات من الاستثمار الدبلوماسي والأمني.
ومنذ انقلاب 2021 في مالي تتعرض الجزائر لعملية تهميش سياسي ممنهجة. ولم يعد دورها كوسيط محل ترحيب، بل بات يُنظر إليه كمصدر تهديد للنهج الأمني الجديد الذي تتبناه السلطات العسكرية في مالي بدعم روسي مباشر.
واستبدلت هذه السلطات لغة التفاوض بمنطق الحسم العسكري، وسعت إلى تقليص هامش التحرك للجهات التي تدعو إلى الحوار، وفي مقدمتها الجزائر. بل إن الخطاب الرسمي في باماكو بدأ يُقدّم الجزائر كـقوة معادية تتعارض مواقفها مع الوحدة الوطنية المالية.
◙ تحول الجزائر إلى قوة خارجية غير مرغوب فيها يُنذر بانهيار البنية الإقليمية التي بنتها على مدى سنوات
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة باماكو مامادو ديالو أن ”الخطاب الرسمي المالي يعكس تحوّلًا في النظرة إلى الجزائر، ليس فقط كفاعل سياسي، بل كطرف يُنظر إليه على أنه لا يفهم السياقات الجديدة التي فرضتها الانقلابات. وجود روسيا عزّز هذه القطيعة."
وفي مقابل هذا التراجع يبرز المغرب كلاعب صاعد يسعى لملء الفراغ الإستراتيجي الذي خلفته الجزائر. وتعد مبادرة الوصول إلى المحيط الأطلسي التي أطلقها العاهل المغربي الملك محمد السادس أواخر 2023، وتبنّتها بقوة دول الساحل، تحولا جيوسياسيا لافتا: من التعاون الأمني إلى الارتباط الاقتصادي.
وتراقب الجزائر هذه التحركات بقلق، حيث تعتبر المبادرة الأطلسية محاولة لتطويق نفوذها. لكنها، حتى الآن، لم تطرح بديلًا عمليًا يُقنع الشركاء التقليديين في الساحل بالاستمرار في التنسيق معها، ما يجعل المنافس المغربي يبدو أكثر جاذبية.
ولا يعد التحاق النيجر وبوركينا فاسو بجبهة التصعيد ضد الجزائر قرارا عابرا، بل يعكس تفككًا في شبكة العلاقات الثنائية التي بنتها الجزائر على مدى سنوات.
وإذ كانت مشاريع مثل خط الغاز العابر للصحراء، والطريق العابر للقارة، ومحطة الكهرباء في النيجر، تُعد أدوات ترسيخ للنفوذ الجزائري في الساحل، تبدو هذه الأدوات اليوم مُعطّلة بفعل تحوّل الولاءات السياسية للأنظمة العسكرية الجديدة.
والخطير في الأمر ليس فقط فقدان هذه المشاريع، بل انهيار الثقة السياسية الذي يجعل من إعادة بناء العلاقات مهمة شاقة وطويلة.
وبدأ التمدد الروسي في المنطقة، سواء عبر السلاح أو ميليشيا فاغنر، يُثمر دعمًا سياسيًا كاملاً للأنظمة العسكرية. وباتت روسيا، التي لم تكن حتى وقت قريب فاعلاً محوريًا في منطقة الساحل، تُقدَّم من قِبل بعض العواصم كبديل فعلي عن الجزائر وقوى غربية أخرى.
ورغم وجود علاقة تاريخية بين الجزائر وموسكو، إلا أن هذه العلاقة لم تتحول بعد إلى شراكة إستراتيجية على مستوى إدارة أزمات الساحل.
وقد يكون هذا هو التحدي الأكبر أمام الجزائر في الوقت الراهن: كيف تستثمر علاقتها مع روسيا لتثبيت حضورها مجددًا، دون أن تُهمّش من قبل حليفها التاريخي؟
وما تواجهه الجزائر اليوم في الساحل ليس أزمة عابرة، بل لحظة مراجعة حقيقية لإستراتيجيتها الإقليمية. فالمنطقة التي طالما اعتبرتها عمقًا إستراتيجيًا تحولت إلى مسرح صراع نفوذ، تُقصى منه تدريجيًا.
◙ الجزائر لم تعد طرفا محوريا في التفاعلات السياسية في الساحل بل تحولت إلى قوة خارجية غير مرغوب فيها
وهذا التراجع لا يهدد مكانة الجزائر الدبلوماسية فقط، بل يُعرّض أمنها القومي لخطر حقيقي، في ظل هشاشة الحدود الجنوبية، وتنامي الجماعات المتطرفة، واستفحال الصراع بين القوى الخارجية.
وتزيد هشاشة الوضع الداخلي حرج الموقف حيث تواجه الجزائر تحديات اقتصادية متزايدة، وتبحث عن استقرار سياسي طويل الأمد بعد حراك 2019، إذ تجد نفسها اليوم في قلب أزمة إقليمية لا تملك فيها ترف المناورة.
ويضاعف التوتر على الحدود الجنوبية من القلق الأمني، خاصة في ظل تنامي نشاط الجماعات المتطرفة في الساحل، وتراجع التنسيق مع حكومات تعتبر الجزائر طرفًا غير محايد. وهذا الانفصال السياسي قد يُترجم في أي لحظة إلى تهديدات مباشرة لأمن الجزائر، عبر حدود طويلة.
وتبدو الجزائر مطالبة بإعادة تعريف علاقتها بجوارها الأفريقي، وبناء أدوات جديدة لاستعادة زمام المبادرة، سواء عبر الدبلوماسية أو الاقتصاد، أو حتى عبر بناء شراكات أمنية توازن بين الاستقلالية والانفتاح.
فالمعادلة باتت واضحة: إما أن تتحول الجزائر إلى لاعب قادر على التكيّف مع التغيرات، أو أن تواصل الانكفاء حتى تنحصر في حدودها، بينما يُعاد تشكيل الإقليم من حولها دون مشاركة منها.
وتقول الخبيرة في الشؤون الأفريقية بمركز تشاتام هاوس إيزابيل فرنانديز ”أزمة الجزائر في الساحل تُشبه ما عاشته فرنسا: فقدان تدريجي للنفوذ بفعل عدم مجاراة التحولات المحلية والدولية."
ويُخشى أن يُترجم التدهور الدبلوماسي إلى تهديدات أمنية مباشرة، مع احتمالية تسلل الجماعات المسلحة أو استغلال الحدود لتهريب السلاح والبشر، لاسيما في ظل التراجع الملحوظ في فعالية التنسيق الأمني الإقليمي.