الجزائر تواجه مأزقا إستراتيجيا في قطاع الطاقة

رغم الثروات الطبيعية الهائلة، تواجه الجزائر تحديات اقتصادية جسيمة تعيق استغلال إمكانياتها بالكامل. إذ أن إحجام الحكومة عن التعاون مع المستثمرين الدوليين قد يحول دون الاستفادة القصوى من هذه الموارد. كما أن احتكار الدولة للقطاع النفطي يقود إلى حالة من الركود الاقتصادي بدل التنمية المستدامة.
الجزائر - تتمتع الجزائر بموارد كبيرة من النفط والغاز ومزايا إستراتيجية قوية، إلا أن إحجام الحكومة عن التعاون مع المستثمرين العالميين ومواطنيها في الخارج قد يحول دون استغلال هذه الفوائد بالكامل. وقد يؤدي هذا إلى ركود اقتصادي ومستقبل غير مستقر للبلاد.
وفي سبعينات القرن الماضي، صرّح بلعيد عبدالسلام، وزير الصناعة والطاقة المؤثر في عهد الرئيس هواري بومدين، أنه “بحلول سنة 2000، ستكون الجزائر يابان أفريقيا.” لكن الجزائر فشلت في تحقيق هذه الرؤية.
وفي ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، تُمثل صادرات النفط والغاز حوالي 95 في المئة من دخل البلاد الخارجي وثلثي إيرادات ميزانيتها. وتفاقم خطر الاعتماد على المحروقات نتيجة سياسة الجزائر في الاحتفاظ بالنفط في باطن الأرض، ورفضها إنشاء صندوق ثروة سيادي للأجيال القادمة (على عكس العديد من الدول المنتجة للنفط الأخرى) والتحول العالمي نحو سياسات واعية بتغيّر المناخ. وهذا ما يثير تساؤلا حول ما إذا كانت ثروة الجزائر من الطاقة ستتحول في نهاية المطاف إلى أصول عالقة.
ولم يضع القادة الجزائريون إستراتيجية اقتصادية متماسكة، وخاصة لقطاع النفط والغاز الحيوي، كما لم يبتعدوا عن نموذج الاقتصاد الموجه الذي فُرض بعد الاستقلال في 1962. وقد أضعف هذا القطاع الخاص ونفّر العديد من رواد الأعمال الجزائريين والمهنيين الناجحين الموجودين في أوروبا والشرق الأوسط وأميركا الشمالية عن الاستثمار في وطنهم.
وتُعدّ تكلفة الغاز بالنسبة إلى الصناعة الجزائرية والمستهلكين من القطاع الخاص من بين أدنى التكاليف في العالم. ويُشكّل الدعم الحكومي لاثني عشر منتجا رئيسيا (ستة منها مرتبطة بالطاقة) أساس الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وبلغ هذا الدعم 13 مليار دولار في 2021. وفي ظل هذه الخلفية، كان إعلان الحكومة في أكتوبر عن خطط لخفض دعم الغاز للصناعة مفاجئا، إذ كان الأمر يُعتبر سابقا غير قابل للمساس، خاصة في ضوء احتجاجات الحراك سنة 2019 التي كشفت عن نقاط ضعف النظام.
ومن العوامل الأخرى التي تُعقّد مستقبل الاقتصاد الجزائري الضرر الدائم الناجم عن عقدين من حكم الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة (1999 – 2019). ولا تزال البلاد تدفع ثمن سوء إدارة شركة سوناطراك (شركة النفط والغاز الحكومية) بقيادة وزير الطاقة والمناجم شكيب خليل خلال ولايتي بوتفليقة. وكانت سوناطراك في يوم من الأيام فخرا وطنيا، لكنها أصبحت مرادفا للفساد وعدم الكفاءة. كما أضعفت فترة حكم بوتفليقة مؤسسات الدولة الرئيسية، بما في ذلك الخدمة المدنية، ووزارة الخارجية، وهيئة الأركان العامة العسكرية، والأجهزة الأمنية. وصعّب تشتت الكفاءات العثور على أفراد مؤهلين لصياغة إستراتيجية اقتصادية جديدة، على الرغم من الموارد البشرية الهائلة التي تتمتع بها الجزائر.
وعادت الجزائر إلى مبدأين أساسيين من أوائل الثمانينات في ما يتعلق بالمحروقات. أولا، تُصرّ الدولة على الحفاظ على احتياطياتها من النفط والغاز للأجيال القادمة بدلا من التطوير السريع، حتى مع خطر خلق أصول عالقة. ثانيا، تسعى الدولة إلى الحفاظ على سيطرتها على المشترين الأجانب للغاز الجزائري، حتى في المشاريع المشتركة مع شركات النفط العالمية الكبرى. وتُعدّ احتياطيات الجزائر من النفط الصخري جذابة للمستثمرين الأجانب، وخاصة الشركات الأميركية. لكن القيود الحكومية على التسويق التجاري أعاقت المشاريع المشتركة.
ولا تزال العديد من الأسئلة الجوهرية دون إجابة. فهل سيستمر استغلال عائدات الطاقة لشراء الاستقرار الاجتماعي بدلا من تنويع الاقتصاد؟ وهل سيكتسب أصحاب رأس المال المحلي الخاص نفوذا أكبر في تشكيل السياسة الصناعية؟ وهل ستستمر القيادة في اتباع إستراتيجية اقتصادية فاشلة؟ ولماذا، لا تزال الحكومة تستبعد جالياتها الناجحة في الخارج في ظلّ التحولات الجيوسياسية الكبيرة، بدلا من الاستفادة من خبراتها في مجال الأعمال والأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص؟
ولا تزال سوناطراك تعاني من تداعيات ولاية خليل، التي دفع فيها القلق داخل الشركة العديد من المسؤولين إلى التهرب من مسؤولية اتخاذ القرارات. وأثارت الاختناقات الإدارية الناتجة إحباط الشركاء الدوليين، الذين كانوا في حاجة إلى عمليات اتخاذ قرارات مبسطة لضمان فاعلية العمل.
ويواجه قطاع الطاقة الجزائري تحديات جسيمة لم تُحلّ بعد. فهل ينبغي على سوناطراك الاحتفاظ باحتكارها لعمليات المنبع؟ فكيف يُمكن تحديث الشركة لتحسين كفاءتها؟ لماذا فشلت في خفض حرق الغاز، الذي تُقدر تكلفته السنوية بما يتراوح بين 2 و3 مليارات دولار، وفقا لدراسة أجرتها كابتيريو الاستشارية في مجال اشتعال الغاز؟ ويبقى تقدم الجزائر في إنتاج الهيدروجين بطيئا رغم الإمكانات القوية (مناخ البلاد، وإمكانية وصولها إلى مياه البحر، وخبرتها في مجال الطاقة، وقربها من أوروبا). فلماذا عجزت عن إنشاء صناعات تحويلية كالبلاستيك ومواد البناء؟ وتشهد الدولة هجرة جماعية لأبرز كفاءاتها على الرغم من احتياطاتها الهائلة من النفط والغاز، بما في ذلك ثالث أكبر احتياطيات من الصخر الزيتي في العالم. ويظل طموح الجزائر في أن تصبح يابان أفريقيا، بحلول عام 2025، مجرد حلم.
ثروة الجزائر من الطاقة ستتحول في نهاية المطاف إلى أصول عالقة ما لم يتم تبني خيارات اقتصادية جديدة
ويرى الكاتب فرانسيس غيلاس في تقرير نشره موقع عرب دايجست أن الطاقة هي القطاع الذي يجب على القادة الجزائريين تطبيق سياسات جديدة جريئة فيه. فمن غير المرجح أن ينجحوا ما لم يتعاونوا بفاعلية أكبر مع شركات النفط والغاز العالمية، ويُشركوا القطاع الخاص، ويُسخّروا إمكانات جيل الشباب المتعلّم.
وتواصل الجزائر فقدان العديد من أبرز كفاءاتها إلى الخارج. ويشكل هذا الفراغ البشري تحديا كبيرا للأمة التي تسعى إلى بناء اقتصاد قوي ومستدام. فالهجرة المستمرة لأصحاب الخبرات والمهارات تعني ضياع فرصة هائلة للاستفادة من هذه العقول في بناء الصناعات الوطنية وتعزيز الابتكار. ويفاقم هذا الهدر البشري من أزمة الاقتصاد الوطني ويؤدي إلى خسارة رأس المال البشري الذي كان يمكن أن يشكل ركيزة رئيسية لتطوير القطاع الصناعي والاقتصادي.
وحتى لو فشلت الجزائر في بلوغ ذروة إنتاجها النفطي هذا العقد، فستواجه صعوبات إذا استمرت في مقاومة تخفيضات دعم الغاز والكهرباء المحليين، مما قد يوفر المزيد من الغاز للتصدير.
ويُمثل تغير المناخ مخاطر وفرصا في آن واحد، لكن الجزائر لا تستطيع الاستفادة منها إلا من خلال المشاركة الفعالة في الجهود العالمية المتعلقة بإستراتيجيات التخفيف من تبعاته، والتكنولوجيا الخضراء، والصناعة.
ولا يزال الجيش الركيزة الأساسية لأمن مواطني الجزائر البالغ عددهم 45 مليون نسمة، إلا أن قوّته تبقى لا قيمة لها إذا فشل الاقتصاد الموجه الذي يدعمه في توقع مستقبل النفط والغاز أو ظل متشككا في المستثمرين الأجانب، بما يعيق النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل المهيمن لضمان السلم الاجتماعي.
وتقف الجزائر عند مفترق طرق في عالم تتفكك فيه التحالفات التي تأسست بعد 1945، مع ضعف أوروبا وتقدّم الصين والهند وتركيا. فرغم قوتها الجغرافية ومواردها، يُهدد غياب إستراتيجية واضحة قدرتها على استغلال هذه الموارد بفاعلية.
وفرضت الجزائر بعد الاستقلال نموذج الاقتصاد الاشتراكي الموجه، حيث سيطرت الدولة على قطاعات حيوية مثل النفط والصناعة. فهذا التوجه الاقتصادي، الذي كان يُفترض به تأمين الاستقلال الاقتصادي، أسهم في إضعاف القطاع الخاص وعزله عن دور أساسي في التنمية الاقتصادية. وبقيت البيروقراطية هي السمة الغالبة، ما أدى إلى تراجع النشاط الاقتصادي وتهميش رواد الأعمال الجزائريين الناجحين في الخارج، وبالتالي بقاء الاقتصاد الجزائري محكومًا بنمط تقليدي لا يتلاءم مع متطلبات العصر.
ولا يمكن إغفال دور المؤسسة العسكرية الجزائرية في تشكيل السياسة العامة، بما في ذلك الاقتصاد، إذ تظل المؤسسة العسكرية فاعلًا رئيسيًا في استقرار البلاد، لكن هذا التوجه قد يعيق التقدم الاقتصادي، خاصة عندما يكون هناك تجاهل من قبل القيادات العسكرية للقطاع الخاص والمستثمرين الأجانب. فهذا التداخل بين السياسي والعسكري قد يحد من قدرة الدولة على تطبيق سياسات اقتصادية فعالة.