الجزائر: استرداد للأراضي من العروش أم تهجير؟

هل تكفي مواد القانون التي وضعت بعد استقلال الجزائر لإعادة تنظيم الأراضي العروشية وضبط حق التصرف فيها استردادا أو تركا؟ وهل باتت السياسات غير المعلنة هذه الأيام “صولة” جديدة لنزع ملكية العروش للأراضي الفلاحية والرعوية وواقعا لا مفر منه حتّم على “الأهالي” القاطنين في شمال الهضاب، من عروش أولاد نائل وما جاورها، التساؤل: هل أصبحنا مواطنين من الدرجة الثانية؟ وهل بات لزاما علينا مغادرة المنطقة وتخلية الأرض التي ورثناها – من قبل أن تقوم لدولة الاستقلال قائمة – لفئات شرهة غير معروفة من داخل الجزائر وخارجها، تريد وضع اليد على موضع القلب من الجزائر، غير آبهة البتة بحدود ما أحل الله لعباده وما حرم؟ إن ظاهر الأمر تنمية مستدامة، وباطنه خلاف ذلك.
“من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق”، فيصل من نور النبوة أقنع الناس عبر الأيام بالمثابرة على خدمة الأرض، وتوريثها جيلا يتلوه جيل، ولم يك يخطر ببال أحد آنذاك أن يأتي زمان تنتزع فيه ملكية الأراضي التي عاشوا في أكنافها إلا بقوة قاهرة كالاحتلال مثلا، وقد وقع هذا المحذور مع الفرنسيين ولا عجب فيه، بل العجب كل العجب فيما أقدمت عليه السلطة بعد الاستقلال، أن مدت يدها إلى ما في أيدي الفلاحين والقرويين من أراض وافتكتها باسم الثورة الزراعية، وهي فكرة استوحاها حكام الجزائر يومذاك من العقيدة الشيوعية، وليت مصير الثورة كان ناجحا في بلادها أو في بلادنا. ثم لاحت للناس مشاريع، إبان السنوات الأخيرة، كانت نواياها مبيتة من قبل “العصابة” التي حكمت إبان عقدين قد انقضيا، حينما دعا أحمد أويحيى، رئيس الوزراء السابق، إلى التفكير الجدي في استرجاع الأراضي من العروش، ولم يبين للناس ساعتها كيف سيتم هذا الأمر، في تصريح متغطرس شهير. بيد أن الأيام التي أعقبت أفول “العصابة” كانت كفيلة ببيان ذلك.
إن قسمة العقار بين ملك خاص تابع للأفراد وملك عام يتبع الدولة - قسمة ضيزى، اتكأت عليها السلطة الجزائرية لتنتزع ملكية الأراضي العروشية من أهلها، ومن ثم إعادة تدويرها لفائدة كل من منتهز غريب عن الديار، بغير وجه مشروع. والمشروعية ههنا تعني أن الأهالي درجوا على تحكيم الشريعة الإسلامية في ملكية الأراضي لا القوانين الموروثة عن الاستعمار الغريبة عن البلاد، إن العروش هم من بدأ خدمة هذه الأرض وأحياها بعد موات قبل الاحتلال الصليبي للبلاد وقبل قيام دولة الاستقلال، أما القوانين الوضعية فلا تراعي نور النبوة الذي قسم البلاد بين العباد، بل إن القوانين سُنّت لتستبيح الأعراف وتوطن غرباء لا يخافون الله في أموال الشعب، إذ أنهم طفقوا انتهابا للأراضي وكأنها مشاع بعقود ربوية باسم الاستثمار، لا يخفى على الناس أنها “سرقة” قانونية للمال العام، كما أنها حرب على الله وعلى الرسول في موازين الشريعة السمحة لا في عيار القوانين الوضعية الجائرة. وتلكم هوة ثقافية واجتماعية سحيقة بين الراعي والرعية على هذه الربوع الطاهرة.
مدينة "بوغزول": ثقب أسود
منذ خمسين عاما ومدينة “بوغزول” حديث العام والخاص. اجتمعت كلمة الناس على صلاحيتها كي تكون محل الواسطة من العقد. ولِمَ لا عاصمة سياسية للدولة الجزائرية تضع عنها غبنا أثقل كاهل”الباهية”بما لا تطيق، وجعل منها مهوى بعيد المنال عن أهلنا في الشرق والغرب والجنوب؟ بل إن أكثر الناس في المناطق النائية ربطوا مستقبلهم بلزوم الانتقال إلى الجزائر العاصمة، التي تركزت فيها كل المصالح الدنيوية، وغدت بسبب ذلك من أسوئ مدن العالم.
مدينة جديدة على الورق، لم تخرج بنيتها التحتية من باطن الأرض بعد، تمضي الإنشاءات على ظهرها مضيّ السلحفاة في الصحراء الخالية. لقد شاخ جيل بأكمله وهو يرقب بشوق أملا بات موهوما، تلاشى طيفه مع فضائح التبذير وسوء التدبير. وليت المدينة الجديدة اكتفت بحدود ما خطط لها من عمران قام أو أنه سيقوم، بل إن صدى امتدادها طار نحو آفاق مجهولة، حبس الناس عن نشاطهم الفلاحي، وسد أمام وجوههم أي طموح لخدمة مزارعهم، وجلا من قوانين قيدت حق التصرف على أرضهم، وأشاعت فيما بينهم عواقب المخاطرة بأموالهم، فظنوا بالمستقبل الغامض على هذه البقعة كل الظنون.
قواعد عسكرية تنوي السلطات الأمنية إقامتها في ضواحي المدينة، تنقذ العتاد العسكري الذي تآكل من جراء الرطوبة المتزايدة على السواحل والصدئ الذي لا يتوقف عن النخر في معادنه. ومطار دولي لا يعرف مكانه، ومناطق صناعية تقرب البضائع إلى البعيد، ومنشآت لا حصر لها، لا يرى القائمون عليها أمامهم غير أرض خاوية على عروشها، وبنوك ملأى بما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين… فعليّ وعلى العروش البدوية إذن، الحفاة العراة رعاء الشاة.
ما الذي جاء بكم إلى باب الدار؟ قالها راعي أغنام لتِقنيّين وقفوا بأرضه يُجرون مسحا بآلاتهم. سيمر طريق الهضاب السيار على صالونك أيها الأعرابي أجاب “الزوار”. هكذا إذن رد الرجل مشدوها، وأضاف مندهشا: فما بال أرزاقي وأشجاري وعمراني؟ إذا كانت لديك أوراق ستعوضك الدولة وإلا فعلى الدنيا السلام، رد الموظفون وانصرفوا إلى غير رجعة. وبقي هذا الفلاح المسكين، منذ تلك الحادثة وحتى اليوم، كالمجنون يقدم رجلا ويؤخر الأخرى، لا يكاد يرسو أمره على قرار، شأنه كشأن الكثير من القرويين، الذين حلت بهم لعنة الطريق السيار في مناطق الهضاب.
◙ هكذا تدار شؤون الدولة الجزائرية تخطيط أعمى لا يبصر الطريق وتنفيذ متجبر لا يراعي حاجات الآدميين القاطنين على الأرض وبرمجة غير معلومة الزمان للمشاريع
هكذا تدار شؤون الدولة الجزائرية، تخطيط أعمى لا يبصر الطريق، وتنفيذ متجبر لا يراعي حاجات الآدميين القاطنين على الأرض، وبرمجة غير معلومة الزمان للمشاريع تأخذ من أعمار الناس بلا حساب. وفوق ذلك كله فساد كبير، يرافق الإنجاز، لا تعرف عصابته إلا بعد خراب العمران.
لم يكد ينتهي الطريق السيار “شرق غرب”، الذي صرفت عليه مليارات الدولارات، حتى بدا عليه الترهل، وغدا في كل موضع يعاد ترميمه، بكلفة يبدو أنها ستقارب ثمن الإنجاز. ذهبت العصابة السابقة وبقي هذا الطريق شاهدا يذكِّر الناس بحال الحكام في الجزائر في كل آن وحين. طريق سيار جديد يخطط له على الأوراق، وآخر يرمم باستمرار، كلاهما يستنفدان الخزينة العمومية بالمزيد من الأموال، ويسلبان أراضي من عروش كثيرة، وعقارات أنفس مستضعفة بريئة. فسبحان من له في تدبير العباد شؤون!
للتغير المناخي أثمان لا بد أن يدفعها المتسببون فيه، لا البلدان التي تشكو منه. وعلى الساسة في هذه البلدان واجب المطالبة بذلك. بيد أن السياسي الضعيف، في هذا العالم، لا يقوى على مواجهة القوي دوما، لأسباب لها صلة بأسرار الحكم في الدول المتضررة، لذلك فقد لجأت الجزائر إلى حيلة النعام، فدكت رأسها في أراضي العروش، واقتطعت منها، بلا مشورة أهلها، مناطق شاسعة قررت اتخاذها غابات محمية، بالاتفاق مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي يشكو من غبار الصحراء الكبرى يتناثر على جناته المحظية، لم يفلح حتى الحاجز البحري في صده عنه. فلِمَ لا تكون الجزائر موضع سد أخضر، يغرس بأموال شعبها وما على سكان الحي إلا حراسته وخدمته. وقدم الغرب مساهمة رمزية تجعل منه شريكا في المشروع.
طبعا لم يقل السياسيون عندنا هذا للناس، بل أشاعوا فوائد جمة للسد الأخضر في الحفاظ على المناطق الساحلية للوطن، وفي الاستفادة من مزارع مثمرة تكون ريعا للقاطنين من حولها إن هم قاموا عليها واحتفظوا بها. وماذا عليهم لو تركوا رعي الأغنام الذي درجوا عليه؟ فلعل في الانتقال منه إلى غيره فوائد وأي فوائد! ولا مجال ههنا للمعارضة، فالأرض ملك للدولة، والقرار بيد الحاكم العام، وعلى الرعية أن تسمع وتطيع.
إن البهائم لا ترى في الأشجار غير وجبة غذائية، ومصير السد الأخضر تقرره الأنعام أو النيران التي يذكيها العالم الصناعي بالمزيد من الغازات الدفيئة، وتلكم متاهة حقيقية يصنعها البشر على الكوكب الأزرق، هو من أحسن ما أبدعت يد الله للخليقة.
لقد انقضت العهدة الأولى من الرئاسة، و”مناطق الظل” بقيت على حالها، وللمشككين في هذه الحقيقة أن يصحبوا محرك البحث “غوغل إيرث” في رحلة ليستكشفوا مصداق ذلك، فليس من رأى كمن سمع. أين الماء الشروب؟ وأين الكهرباء؟ أين الطريق المعبد؟ وأين الغاز؟ أين السكن الريفي؟ وأين الدعم الفلاحي؟ إن النظام السياسي الجزائري أدمن الكذب على الناس حتى أصبح لا يشعر بالذنب. وإن الشعب الجزائري ملّ من تلكم الوعود حتى ركن شبابه إلى البطالة والدعة واتخذها حرفة.
مرابون وأجانب تحت وصاية نافذة
ازدواجية المنظومة القانونية في المجتمع تتحمل وزرها السلطة ومن يحوم حولها. للشعب الجزائري المسلم مرجعيته الدينية، منها يستمد الأحكام وإليها يتحاكم في شؤون معاشه ومعاده. ويدرك الجزائريون جيدا أن السلطة القائمة على البلاد لا تكنّ ودا للإسلام ولا تسعى إليه بين الناس، فعقليتها من بقايا الحقبة السوفيتية المعادية للدين.
هذه الخلاصة مهمة للغاية كي يفهم المجتمع الجزائري لماذا تقتلع السلطة الأهالي من أراضيهم وتستبدلهم بالمستثمرين. المستثمر اسم يطلق على من يحمل مشروعا اقتصاديا ويمتلك القدرة على تنفيذه. بطبيعة الحال لن يجازف المستثمر بكل ماله في مشروع قد يخسر، لذا فهو يدخل البنك شريكا له في المشروع. وهنالك صلة غير مرئية بين القائمين على البنوك وبين المستثمرين، هي من أوجه الفساد في الأرض، فالمستثمر يقتطع من الأموال التي سيقترضها أو سيشاركه بها البنك رشوة ليسهل عليه الظفر بالقبول، وللأيدي الخفية النافذة في دواليب الحكم نصيب من الكعكة لقاء تجسيد هذا الاستثمار.
◙ اللعبة قائمة هكذا على رؤوس الغفّل من الفلاحين، الذين تسلب منهم أراضيهم بحجة أنها ملك عام وقد آن للدولة أن تسترجعها
واللعبة قائمة هكذا على رؤوس الغفّل من الفلاحين، الذين تسلب منهم أراضيهم بحجة أنها ملك عام وقد آن للدولة أن تسترجعها. ولكي يُكفى شر العروش، يسدد المستثمر المرابي أثمانا بخسة للأهالي تدفع عنه مطالبتهم بأرضهم في قابل الأيام، لتخلو له الساحة فيفعل ما يشاء. منهم من يريق شيئا من المال على الأراضي التي باتت في حوزته ذرا للرماد ثم يمضي بالنصيب الأوفر إلى وجهة غير معروفة، ومنهم من يعمل في الميدان بأيد محلية تفتقد هممها إلى الدافعية الإنتاجية ويسيطر على نفسيتها الوجوم بسبب الحرمة الربوية، ولكونها تشعر في قرارة نفسها بأنها المالك الحقيقي للمشروع في بنيته التحتية، وفي بنيته الفوقية كذلك.
ومن أغرب ما حل بمنطقة البيرين مؤخرا، أن جاءها مستثمر من الخليج يحمل مشروعا لتربية البقر الحلوب. فلم يعدم الرجل الآلاف من الهكتارات “المقفرة” التي خصصت له على عجل، ومُنّي الناس من حولها بأن هذا الاستثمار سيفك أزمة الحليب عن البلاد، وسيقيم المستثمر بينه وبين جيرانه من الفلاحين والموالين شراكات تدر على الجميع المال والمتاع، من دون أن يبرز شخص واحد من السلطة الرسمية العليا أو المحلية يخاطب الأهالي أو يفسر لهم ما جرى ويجري.
تتساقط مشاريع كثيرة على الأراضي العروشية، النافع منها أقل من الضار، بلا تخطيط يستشير الأهالي أو يشركهم في القرار. إن السلطة باتت لا ترى غير ربح مادي موهوم ليس بالضرورة أن يكون في صالح المناطق المسلوبة أراضيها. ولا يظنّنّ أحد أن هذا الأمر من شأن الدولة الحديثة الساعية إلى التنمية المستدامة، إذ لو كان ذلك حقا لاستبقت السلطة الناس في مضاربهم، وأوصلت الأموال المستحقة إليهم، من خلال رؤية ذات بُعد وحكمة، ترسم للناس مشاريع صغيرة ومتوسطة وأخرى كبيرة، تشرف على تنفيذها الإدارة الرسمية، بأيد نقية، وأموال طاهرة زكية.