الجبهة الفلسطينية الثانية: هدوء نسبي وقلق وانتظار

فشلت حركة حماس حتى الآن في فتح جبهة ثانية في حربها ضد إسرائيل. وبالتالي، تجنبت المجتمعات العربية المقيمة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وإسرائيل تكرار أعمال الشغب العنيفة التي وقعت عام 2021. لكن الوضع قد يتغير نحو الأسوأ.
القدس - لم يستجب السكان العرب في الضفة الغربية والقدس الشرقية، فضلاً عن العرب الإسرائيليين، بَعْدُ لدعوة حماس للانضمام إلى القتال، ولكن وسط التوترات المتزايدة، فإن الهدوء الهش قابل للانفجار.
وعندما شنت حركة حماس هجومها الكبير على إسرائيل في 7 أكتوبر، طلب رئيس العمليات العسكرية في الحركة، محمد الضيف، من حزب الله الانضمام إلى الحملة، وناشد العرب الإسرائيليين وعرب القدس الشرقية وفلسطينيي الضفة الغربية أن يستغلوا صدمة اللحظة لإشعال مناطقهم.
وقال الضيف مشيراً إلى المسجد الأقصى في المدينة القديمة في القدس “قررنا أن نضع حداً للانتهاكات الإسرائيلية في الأقصى والبدء بعملية طوفان الأقصى و”اليوم يستعيد شعبنا ثورته ويعود إلى مشروع إقامة الدولة”.
وتقول نعومي نيومان وهي زميلة زائرة في معهد واشنطن إنه منذ ذلك الحين تَركّزَ الاهتمام على حزب الله، الذي فضّل حتى الآن اتباع سياسة حافة الهاوية بدلاً من التصعيد الشامل، بناءً على أوامر من رعاته الإيرانيين على الأرجح. وأما الوضع في الضفة الغربية والقدس الشرقية وبين العرب الإسرائيليين فهو أكثر تعقيداً.
وعلى الرغم من أن دعوة الضيف لم تلقَ آذاناً صاغية في هذه المجتمعات العربية إلى حدٍ كبيرٍ، إلا أنها تشهد انقساماً بين مَن ينتقدون العنف الذي مارسته حماس وبين مَن يتعاطفون مع سكان قطاع غزة. كما أن هذه المجتمعات قلقة جداً بشأن رد الفعل الإسرائيلي إذا قدّمت الدعم لحماس.
وبالنسبة إلى إسرائيل فإن السؤال الرئيسي هو ما إذا كان ذلك سيتغير، لاسيما في أعقاب الغزو البري المتوقع لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة
وبالنظر إلى تجربة إسرائيل خلال “عملية حارس الجدران” في مايو 2021، عندما نجحت حماس في توحيد هذه المجتمعات العربية ضمن حملة متعددة الجبهات أثارت احتجاجات عنيفة في جميع أنحاء الضفة الغربية، وأعمال شغب جماعية في القدس، وأعمال عنف في مدن يهودية عربية مختلطة في إسرائيل، فإن الخوف من العنف الناشئ عن هذه المجتمعات هو أمر منطقي.
الضفة الغربية
ليس من المرجح أن ينتهي الصراع الدموي بين إسرائيل وحماس قريباً، الأمر الذي يضع كافة الأطراف أمام مهمة تتزايد صعوبتها
على الرغم من أن حوادث العنف الفلسطينية في الضفة الغربية لم تحظ إلا بتغطية إعلامية قليلة نسبياً، إلا أنها تزايدت بشكلٍ ملحوظٍ منذ هجوم حماس.
وفي الأسبوعين اللذين أعقبا العملية، ازدادت الهجمات أساساً ثلاثة أضعافٍ مقارنةً بالفترة التي سبقت عملية حماس فبلغت أكثر من تسعين هجوماً كبيراً منذ السابع من أكتوبر
ويحدث ذلك بعد عامين من التصعيد المستمر في الضفة الغربية، حيث يتم تنفيذ الهجمات من قبل قائمة طويلة من الجماعات التي أصبحت أكثر كفاءة وترسخت بشكل متزايد، خاصةً في المناطق التي تفتقر إلى الحكم الفعال، مثل مخيمات اللاجئين، لاسيما في شمال الضفة الغربية .
ومنذ 7 أكتوبر، شهدت الضفة الغربية أيضاً ارتفاعاً في الاحتجاجات الداعمة لغزة. وبلغ هذا التصاعد ذروته بعد المأساة التي وقعت في مستشفى الأهلي العربي والتي قُتل فيها المئات.
كما شهدت نقاط الاحتكاك العديدة في المناطق المدارة مواجهات عنيفة مع قوات الأمن الإسرائيلية، التي اعتقلت أكثر من 1000 فلسطيني، من بينهم حوالي 500 من نشطاء حماس، وصادرت العشرات من الأسلحة، وأسفرت هذه المواجهات عن مقتل 106 فلسطينيين منذ 7 أكتوبر.
وتدرك السلطة الفلسطينية من جهتها أهمية هذا الوقت وحساسية الوضع في الضفة الغربية. وقد تبنّت بدورها إستراتيجية تقوم على السماح بتنظيم الاحتجاجات العامة باعتبارها صماماً لتنفيس مظالم الفلسطينيين، ولكن أيضاً لمنع مثل هذه الاحتجاجات من اتخاذ طابع عنيف خشية أن يؤدي ذلك إلى فقدان سيطرة السلطة الفلسطينية ويصبّ في مصلحة حماس.
ويمكن أن تؤدي مجموعة من الدوافع إلى إنهاء حالة الهدوء في الضفة الغربية، لاسيما الارتفاع الكبير في عدد الضحايا بعد دخول جيش الدفاع الإسرائيلي إلى غزة، أو فشل عسكري إسرائيلي مذهل هناك.
ويشمل المشهد الفلسطيني الأوسع نطاقاً تَعَمُّق الشعور بعدم الجدوى السياسية، وتزايد الاستياء من فساد “السلطة الفلسطينية”، وتفاقم انعدام الأمن الشخصي، سواء بسبب نشاط الجيش الإسرائيلي أو تصاعد العنف من قبل اليهود اليمينيين المتطرفين الذين يعيشون في الضفة الغربية، أو المتعاطفين من اليهود المتطرفين من الجانب الآخر من الخط الأخضر، الذين قد تكون لديهم مصلحة في تأجيج التوترات مع الفلسطينيين المحليين في هذا الوقت الحساس.
القدس الشرقية

وصفت حماس هجوم أكتوبر بأنه دفاع عن المسجد الأقصى، لكن سكان القدس الشرقية امتنعوا بشكل عام حتى الآن عن الانضمام إلى الحملة.
ويبدو أن إحجامهم عن الاستجابة لدعوة حماس يعكس مزيجاً من التردد في التعاطف مع عنفها، والخوف من العواقب التي قد يتكبدونها في اليوم التالي لهزيمة حماس في غزة.
وخلال العام الماضي، حاولت حماس تحريض الشباب في القدس الشرقية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والنداءات المباشرة من قبل قادة الحركة أيضاً.
وتتناول هذه الرسائل مجموعةً من المواضيع، بدءاً من الارتباط الوثيق بين قطاع غزة والقدس، ومروراً بإهمال إسرائيل لسكان القدس الشرقية، ووصولاً إلى ضرورة إنقاذ الأقصى مع اقتراب “يوم التحرير”.
وتحرص حماس بشكلٍ خاصٍ على تسليط الضوء على المجالات الحساسة التي تتعلق بالظلم والعزل والهوية. فهل سكان القدس الشرقية “فلسطينيون” أم “مقيمون غير مواطنين في إسرائيل”؟.
وتأتي هذه الجهود في سياق إهمال القدس الشرقية منذ فترة طويلة، ووقوعها ضحية عدم اكتراث جهتين فاعلتين رئيسيَتين هما دولة إسرائيل التي تركز على الاستثمار في الأحياء اليهودية في المنطقة، والسلطة الفلسطينية التي تثني سكان القدس الشرقية عن المشاركة في الانتخابات البلدية.
وفي حين أن التصويت من شأنه أن يؤكد توحيد إسرائيل للمدينة، إلّا أن عدم التصويت يؤدي إلى حرمان العرب المحليين من حصتهم المشروعة في التمثيل والتأثير في حكم المدينة.
ولم يتم بعد تقييم التأثير الذي أحدثه هجوم 7 أكتوبر على مشاعر سكان القدس الشرقية. وفي السنوات الأخيرة، أظهرت استطلاعات الرأي التي أجراها كلٌ من معهد واشنطن والمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية ومقره في رام الله، شكوكاً متزايدة بين سكان القدس الشرقية إزاء حكم السلطة الفلسطينية، وزيادة القلق بشأن خسارة الخدمات والبنى التحتية الإسرائيلية إذا انضموا إلى دولة فلسطينية. فوفقاً لاستطلاعٍ أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية منذ عام 2022، يقول أكثر من ثلث (37 في المئة) فلسطينيي القدس الشرقية إنه في سياق الحل الدائم لدولتين، فإنهم يفضلون أن يكونوا مواطنين في إسرائيل وليس في دولة فلسطينية.
وعلى مستوى أعمق، أظهر الاستطلاع الذي أجراه معهد واشنطن في يوليو 2023 اتجاهاً متزايداً آخر نحو دعم التعايش: فقد وافق 63 في المئة من سكان القدس الشرقية، و72 في المئة من الفئة العمرية 18 – 34 عاماً، على عبارة “آمل أن نصبح والإسرائيليين أصدقاء يوماً ما، ففي النهاية جميعنا بشر”.
عرب إسرائيل
يمكن القول إن هجوم 7 أكتوبر جاء عندما بلغ تَقَبُّل الرسالة الموجَّهة من حماس ذروته لدى العرب الذين يعيشون في إسرائيل، بينما انخفضت ثقتهم بالدولة والحكومة والمؤسسات الإسرائيلية إلى مستويات غير مسبوقة.
وفي أوساط هذا المجتمع الحيوي الذي يشكل ما يقرب من 20 في المئة من سكان إسرائيل، يسود شعورٌ حادٌ باليأس نظراً للزيادة المروعة في أعمال العنف والجرائم والضائقة الاقتصادية بين العرب، وهي مشاكل اجتماعية واقتصادية عميقة يعتقد الكثيرون أن دولة إسرائيل كانت قاسية في التعامل معها.
ومع ذلك، وعلى خلاف السلوك المتبَع خلال “عملية حارس الجدران” في عام 2021، لم يستجب العرب الإسرائيليون بعد لدعوة محمد الضيف ولم يفتحوا جبهة أخرى في حرب حماس بل على العكس من ذلك، شارك بعض العرب الإسرائيليين في القتال ضد حماس، سواء كمجندين في جيش الدفاع الإسرائيلي أو من خلال إنقاذ اليهود في الكيبوتسات، حيث تعرّضوا لإصابات وهناك منهم من فقد حياته.
وأعرب كثيرون آخرون عن تضامنهم مع إسرائيل وقدّموا دعمهم للسكان الذين أُجبِروا على إخلاء المجتمعات القريبة من غزة.
وفي هذا السياق، فإن سلوك “الجناح الشمالي في الحركة الإسلامية في إسرائيل” له أهمية خاصة، حيث أدانت هذه الحركة بشدة تصرفات حماس عدة مرات، بل وعملت مع عناصر الإخوان المسلمين في جميع أنحاء العالم للعمل من أجل إطلاق سراح المختطفين.
ويقيناً، أن بعض العرب الإسرائيليين أعربوا عن تضامنهم مع حماس وحتى مع هجوم7 أكتوبر، حيث اعتقلت الشرطة الإسرائيلية ستين فرداً وأوقفت الجامعات أربعين آخرين عن الدراسة أو أطردتهم.
ولكن يبدو أن هذه الآراء تقتصر على أقلية مقلقة ولكنها صغيرة نسبياً. وفي الواقع، أظهر استطلاعٌ للرأي أُجري مؤخراً أن نحو 80 في المئة من العرب الإسرائيليين يعارضون هجمات حماس”، في حين أبدى نحو 5 في المئة تأييدهم لها.
لكن ليست جميع الأخبار إيجابية على هذه الجبهة. ففي حين أن معظم العرب الإسرائيليين يرفضون عنف حماس، إلّا أن التوترات ما زالت تتصاعد بين المجتمعين اليهودي والعربي في إسرائيل. فمن جهة، ما زال الجمهور اليهودي يخشى أن ينضم العرب الإسرائيليون يوماً ما إلى الحملة التي تقودها حماس، كما فعلوا خلال أعمال الشغب الطائفية في عام 2021. ومن جهة أخرى، يزداد الغضب داخل المجتمع العربي الإسرائيلي بسبب فرض الحواجز الأمنية التي تمنع الكثيرين من الذهاب إلى العمل والعودة منه، لاسيما مواقع البناء، مما يضر بوضعهم الاقتصادي وعاداتهم اليومية، ويؤدي بشكلٍ خاصٍ إلى تقويض مكانتهم كمواطنين إسرائيليين.
وفي حال وجود أيّ حافز حاسم، فإن النهج غير النشط وحتى الداعم الذي يتبناه العرب الإسرائيليون اليوم، والذين يرون أنفسهم عموماً جزءاً من النظام السياسي الإسرائيلي الأكبر، على الرغم من الشكاوى العميقة حول التحيز والتمييز، قد يتحول إلى نهج تصادمي متوافق مع حماس.
وليس من المرجح أن ينتهي الصراع الدموي بين إسرائيل وحماس قريباً، الأمر الذي يضع كافة الأطراف أمام مهمة تتزايد صعوبتها تتمثل في الحفاظ على الديناميكية العملية بين العرب واليهود في إسرائيل والقدس الشرقية والضفة الغربية، وإن كانت هذه الديناميكية غير مستقرة.