الثور المجنح حارس الحضارة الآشورية في الماضي والحاضر
يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون لذلك يتحمل التأويل، لكن الآثار والشواهد المعمارية والفنون تبلغ الأجيال عن الحضارة التي أنتجتها، والثيران المجنحة في العراق تماثيل تقيم دليلا لا يقبل الشك عن عظمة الحضارة في بلاد الرافدين.
بغداد – أعلنت البعثة الفرنسية للتنقيب، الثلاثاء، عن العثور على جسد الثور المجنح “لاماسو” في موقع دور شروكين “خورسباد الأثري” في نينوى شمال العراق.
وتم اكتشاف الثور المجنح “شيدو لاماسو” في تسعينات القرن الماضي، لكن حاول البعض سرقته بتقطيع الرأس وتهريبه إلى خارج العراق، ليتم بعدها إرسال الرأس إلى المتحف العراقي وإعادة ترميمه وهو معروض في القاعة الآشورية، ويبقى الجسد في مكان غير معروف، حتى اكتشافه الثلاثاء من قبل البعثة الفرنسية.
وقالت البعثة في بيان إن التمثال المكتشف يبلغ طوله 3 أمتار، ويزن 10 أطنان، وهو مصنوع من الحجر الجيري الأبيض.
الثور المجنّح في معتقدات بلاد ما بين النهرين "جزء من الوحوش التي جرى ترويضها وتوضع على مداخل المدن من أجل حمايتها"
وأضافت أن التمثال كان موجودا في منطقة الباب الرئيسي للقصر الملكي في “خورسباد”، الذي كان مقرا للحكم الآشوري في القرن السابع قبل الميلاد، موضحة أن التمثال كان في حالة جيدة، حيث احتفظ بألوانه الأصلية.
وتعود التماثيل إلى حضارة بلاد وادي الرافدين، وتم بناؤها لتعزيز الجمال المعماري للأبنية ولتكون حرسا شخصيا للمداخل، وكانت تستخدم لطرد الشر بعيدا وحماية المدن والمعابد والقصور.
وتم اكتشاف أول تمثال للثور المجنح في عام 1886، ومن ثم تم اكتشاف العديد من التماثيل في مدن عراقية مثل نينوى وسنحاريب وذركمال.
وذكر عالم الآثار الفرنسي فيكتور بلاس في القرن التاسع عشر الثور “شيدو لاماسو”، ولم يتمّ توثيقه حتى التسعينات حينما تمّ “استخراجه” من أجل “تدخل طارئ” من قبل السلطات العراقية. وفي ذلك الحين، قطع رأسه وسرق من قبل اللصوص. وبقيت قصة الثور المجنّح حاضرة في التاريخ المعاصر للعراق.
وفي العام 2014، حينما استولى تنظيم الدولة الإسلامية على أجزاء واسعة من شمال العراق، هجرت القرية من سكانها، لكنهم كانوا قد قاموا بـ”حمايته وإخفائه” تحت الأرض جيداً قبل أن يفروا.
ويقول باسكال بوترلان أستاذ علم آثار الشرق الأدنى القديم في جامعة باريس 1 بانتيون السوربون، الذي قاد بعثة مكوّنة من علماء آثار فرنسيين وأوروبيين وعراقيين إن “الاهتمام بالتفاصيل الفنية” في التمثال “مذهل”.
وتبدو الريش المنحوتة التي تشكّل جناحي التمثال، وكأنها لا تزال جديدة، كما حواف المخلوق “الهجين بين إنسان وحيوان”، كما يشرح بوترلان.
والثور المجنح يتكون من جسم ثور يحمل رأس إنسان، بالإضافة إلى خمس أرجل وجناحين، ويرتدي القلنسوة العالية مع حزام. وكل جزء من التمثال يحمل رمزا مميزا، حيث يرمز جسم الثور إلى التكاثر والفحولة والجسارة، ويعبّر رأس الإنسان عن الحكمة والذكاء، أما الأجنحة فترمز إلى الحرية والسيادة، بينما يرمز الحزام إلى القوة والقدرات الخاصة.
ويشرح بوترلان أنّ الثور المجنّح في معتقدات بلاد ما بين النهرين “جزء من الوحوش التي جرى ترويضها وتوضع على مداخل المدن من أجل حمايتها”، مضيفاً أن “الثور المجنّح هو بدون شكّ أحد آخر الثيران التي تم بناؤها في عهد خورسباد، قبل توقف البناء” في عهد سرجون الثاني.
التمثال كان موجودا في منطقة الباب الرئيسي للقصر الملكي في "خورسباد"، الذي كان مقرا للحكم الآشوري في القرن السابع قبل الميلاد
وكانت لبناء التماثيل في فترة الحضارة الآشورية العديد من الدلالات. فقد كانت تستخدم في مداخل القصور كجزء من الأقواس المثبتة على الأبواب، وتعكس تطور المجتمع العراقي في تلك الفترة، كما وجدت كتابات ورسومات على أجساد التماثيل باللغة الآشورية، حيث تم استخدامها لتسجيل المعارك والانتصارات ومآثر الملوك ومواقع القلاع والمعابد وغيرها من الأحداث التي يُرغب في توثيقها والاحتفاء بها.
وذُهل السير أوستن هنري لايارد وهو خبير آثار قاد عمليات تنقيب في نينوى، بعظمة الثيران المجنحة وطريقة نحتها الرائعة. وكتب لايارد في عام 1853 “أجنحة كبيرة ممتدة ترتفع أعلى ظهورها، ومناطق الصدر والجسم كانت مزينة بشدة بالشعر المجعد”.
وقال “كانت وراءها أشكال ضخمة ذات أجنحة بنفس الارتفاع وكانت ذات وجوه كاملة ونقوشها عالية وواضحة. وكان تصميم الأطراف والعضلات ينم عن معرفة بالفن أكثر من أي تمثال آخر رأيته في هذه الفترة. وصممت الساق العارية والقدم بروح ومصداقية جديرة بفنان يوناني”.
ويقول مارك الطويل وهو خبير آثار أميركي من أصل عراقي “إنها مرعبة جدا، هذه الوجوه تبدو مرعبة نوعا ما، الأجنحة والحوافر، وهذا المخلوق المركب الذي يضم حيوانات عديدة هو ضخم جدا وله نظرات مخيفة. إنه يشعرك بقدر من الخوف”.
وفي الوقت ذاته ووسط كتلة من الشعر المجعد ولحيته المتدلية، ترتسم على وجه الثور المجنح ما تبدو أنها ابتسامة صامتة. إنها صارمة، لكنها تحتفي بالآخرين على طريقتها.
