التنمية البشرية.. طريق طويل لخروج المجتمعات من دائرة الأزمات

اتخذت وزيرة السعادة الإماراتية المعيّنة حديثا، عهود الرومي، أول قراراتها بإعطاء منحة لكل موظفي الدولة بنسبة تصل إلى 100 بالمئة من الراتب الأساسي الذي يتقاضونه. ووجدت هذه الوزيرة الشابة، أن مفتاح السعادة لكثير من المواطنين في دولة الإمارات، يتمثل في زيادة رواتبهم بالدولة.
وبعث هذه الوزارة في دولة الإمارات لقي الكثير من الترحيب من طرف المتابعين ولا سيما المهتمين بمسألة التنمية البشرية، والمدافعين على ضرورة تفعيلها على أكثر من مستوى. ويبدو أن دولة الإمارات ترغب في تدعيم مكاسبها في هذا الإطار لا سيما وأنها قد حلت في مرتبة متقدمة ضمن التقرير الخاص بمؤشر التنمية البشرية لعام 2015 الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وفي الأثناء تسعى بعض الدول العربية الأخرى إلى تأمين حد مقبول من التنمية البشرية.
وتُعرِّف الأمم المتحدة “التنمية البشرية” بأنها عملية تتضمن توسعة خيارات الناس عبر توسعة القدرات البشرية على المستويات كافة؛ بمعنى تعظيم قدرة الناس على أن يعيشوا حياة مديدة وصحية، وأن يحظوا بالمعرفة، وأن يتمتعوا بمستوى لائق من المعيشة. لكن هذا التعريف العام لا يزال يخضع للمراجعة ودعوات التعديل والتنقيح والتلقيح المفاهيمي والتطعيم الفكري.
مفهوم تقليدي
ويشير محمد عبدالشفيع عيسى، وهو أستاذ في معهد التخطيط القومي بالقاهرة، في بحثه “إعادة النظر في التنمية البشرية”، إلى المفهوم السائد لـ”التنمية البشرية” في الكتابات الدولية، فيُجمِل السقوف المُثلى له في خمس مجموعات. أولها توفير إمكانات كسب الدخول وفرص العمل اللائقة، سواء من حيث إيجاد مناصب الشغل الكافية وضمان مستوى ملائم للأجور، وخصوصا في علاقتها بكل من الأسعار والإنتاجية. وثانيا، الرفع من مستويات التعليم، وفق مقاييس متنوعة، في مقدمتها نسبة الإلزام لمن هم في سن الدراسة، ونسبة الاستيعاب للخاضعين للإلزام، ورفع معدل القيد الدراسي في حدود سقف معين لكل مرحلة تعليمية مُناظِرة للفئة العمرية المعينة ضمن الهيكل الديموغرافي، والحد من التسرب، والنظر في مدِّ التعليم الأساسي حتى نهاية التعليم الثانوي، وتخفيض معدلات الأميّة، وتحسين مستوى الخدمة التعليمية، وتوفير المباني المدرسية الملائمة، وملائمة نسبة الطلاب للمعلم الواحد، والتغذية المدرسية والرعاية الصحية، وحبَّذا التأمين الصحي على التلاميذ والطلبة.
ثالثا، تحسين مستويات الصحة العامة، والتي تحدد بالعمر المتوقع عند الميلاد، ومستوى الصحة الإنجابية، ونسبة الوفيات عند الميلاد من مجموع المواليد، ومعدلات الوفيات للأطفال الرضع، ونسبة وفيات الأمهات (عند وضع المولود). إلى جانب توفير الرعاية الصحية الأولية بمعنى الوقاية والعلاج بصورة شاملة، وليس فقط من حيث التداوي، وتوفير مرافق العلاج المتقدم، والتي تشمل تطبيق نظام وطني شامل للتأمين الصحي، ورفع مستوى المستشفيات والعيادات الشاملة والوحدات الصحية بأنواعها، وتوفير الدواء المناسب، نوعية وسعرا، للفئات المختلفة من المرضى، وتطبيق المعايير الضرورية لمرافق العلاج الخاصة والعامة، سواء من حيث المعدات أو الأفراد أو “المكان” وعناصر التكلفة ومستوى الأمان ومعايير الأداء.
عناصر المفهوم السائد للتنمية البشرية، يمكن اعتبارها في مجملها بمنزلة مقاربة لمشكل الفقر الجماعي
ورابعا، ضمان الإمدادات المناسبة من مياه الشراب ومرافق الصرف الصحي. وخامسا ضمان الحدّ التغذويّ الأدنى من السعرات الحرارية للفرد.
ويرى الأكاديمي المصري، في ورقته البحثية أن عناصر المفهوم السائد للتنمية البشرية يمكن اعتبارها في مجموعها بمنزلة مقاربة لمشكل الفقر الجماعي، وخصوصا في البلدان النامية والأقل نموا، ضمن المجموعة منخفضة الدخل في العالم، وكذا الشريحة الدنيا، بل والوسطى من المجموعة متوسطة الدخل، وفق تعريف وتصنيف “البنك الدولي”.
بعبارة أخرى، يُفيد الباحث، بأن العناصر الخمسة السابقة للتنمية البشرية تمثل نوعا من المقاربة (الشاملة) لقضية الفقر سعيا إلى خفض مستواه، من خلال الحدِّ التدريجي الفعال لأعداد ونسبة الفقراء من السكان عبر الزمن، سواء من “المشتغلين الفقراء” أو المعطلين الباحثين عن عمل والراغبين فيه، (أو المعولين) من “القوة البشرية”، خارج “قوة العمل”، سواء قبل أو بعد سن العمل، والطلبة والجنود.
يضاف إلى ما سبق، من هم “خارج القوة البشرية” من فئة “غير القادرين على الكسب” من العجزة عن بذل الجهد أو النشاط الاقتصادي، سواء لعلة المرض أو الإعاقة المانعة. ويزيد الباحث عليهم أيضا الفئات الاجتماعية ممن يرى إمكانية تسميتهم – وفق المصطلح التراثي – بالمساكين، أي أولئك الذين يعانون تبعات “الظروف الاجتماعية الصعبة”، ولا تتوفر لهم مظلة للحماية وشبكة للأمان، رسمية أو غير رسمية، وخصوصا من النساء، ممن فقدن العائلين لهنَّ، لسبب أو آخر، كالوفاة أو الانفصال، والأطفال الهائمين (في الشوارع). ويستطرد الباحث لافتا إلى أهمية إدراج “النساء المعيلات” و”عمالة الأطفال” ممن لا تكفيهم دخولهم للوفاء بالحدِّ الأدنى لما يسمَّى “حد الكفاف”.
الباحث يطالب بتصحيح مفهوم التنمية البشرية في بعديه، الموضوعي والمضموني الذاتي.
يطالب الباحث بتصحيح مفهوم التنمية البشرية في بعديه، الموضوعي والمضموني الذاتي. ونقاشا للبعد الأول يعود إلى الخلفية السياسية/التاريخية لنشوء المفهوم، فهو يعتقد أن ابتكار مفهوم التنمية البشرية جاء في سياق ترويج فكر الرأسمالية المنتصرة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية السوفييتية في أوائل التسعينات. وفجّرت في إطار ذلك محاولة لإعادة تجميل المنظومة الفكرية للرأسمالية، وإخراج منتج فكري متكامل يقدم صورة (إصلاحية) للنظام الرأسمالي، بحيث تعيد تأهيله، ليناسب مجموع “العالم الثالث السابق” والكتلة الاشتراكية السابقة. وهكذا تم العمل على بناء منظومة فكرية كاملة، للحلول محل النظريات ذات البعد الاشتراكي.
تصحيح مفهوم "التنمية البشرية"
وكانت هناك صورتان لهذه المنظومة الفكرية، صورة (قبيحة)، إذا صحَّ التعبير، طرحها “الليبراليون الجدد” منذ مطلع الثمانينات بدءا من “الثاتشرية” و”الريغانية”، وانطلاقا من تيار “النقديين الجدد” في علم الاقتصاد بزعامة ميلتون فريدمان. وفحوى هذه الصورة، جعل مركز الأزمة التي تعانيها النظم القائمة على المفاهيم “الرأسمالية” مركزا ماليا في الأساس، متمثلا بعجز الموازنات العامة، بفعل التمويل التضخمي للعجز، وأن مدخل العلاج للآثار التضخمية – الركودية للعجز هو خفض النفقات الاجتماعية الموجّهة إلى نظم الحماية والتأمينات الاجتماعية، وتأمينات التقاعد والبطالة والتأمين الصحي، وبعض نظم الدعم الغذائي.
وصورة (جميلة) إذا صحَّ التعبير أيضا، تأسست على جملة من المنظومات الفرعية منها القائمة على “مكافحة الفقر، ومنظومة فرعية أخرى قائمة على “التنمية البشرية”، ويطلق البعض عليها اسم “التنمية الإنسانية، فضلا عن دعاوى الحريات والانتقال الديمقراطي، ودعاية حقوق الإنسان.
ووفقا للباحث، فيما تبلورت سلة الأدوات الاقتصادية للرأسمالية على مواجهة الفقر وتحقيق التنمية البشرية، فقد تبلورت سلة للأدوات السياسية والدبلوماسية لضبط إيقاع العمل الداخلي والدولي، للبلاد النامية بشكل خاص، انطلاقا من المفاهيم المطوَّرة غربيا – أميركيا لكل من الحريات، والانتقال الديمقراطي، وحقوق الإنسان.
تصحيح مفهوم "التنمية البشرية" لا بد أن يمر بمرحلتين، تتطلب الأولى تنقيح مفهوم "التنمية البشرية"، وفق مسار "التنمية المستدامة"
ويرى الباحث أن تصحيح مفهوم “التنمية البشرية”لا بد أن يمر بمرحلتين. تتطلب الأولى تنقيح مفهوم “التنمية البشرية”، وفق مسار “التنمية المستدامة”.
و مفهوم “التنمية المستدامة” حسب الباحث ينبغي أن يتحرر من أسر البيئيين وتصحيحه برحابة تفكير الاقتصاديين وعلماء الاجتماع وخبراء “السياسات المقارنة”، عن طريق تطعيم المفهوم البيئي بالبعد الاقتصادي المتمثل برفع مستويات الادخار والاستثمار الوطني للاقتراب من إقامة نموذج تنموي أكثر اعتمادا على الذات. والبعد الاجتماعي المتمثل خصوصا بالقضاء على التفاوت في توزيع الثروات والدخول، والاقتراب من العدل الاجتماعي بمفهومه الواسع. والبعد السياسي، القائم على توسيع هامش المشاركة الشعبية في السلط.
أما المرحلة الثانية، فتتطلب التنقيح بالتعديل الجوهري لمفهومي التنمية البشرية، والتنمية المستدامة، عن طريق دمجهما في مفهوم “التنمية الشاملة” التي تعانق الأبعاد المختلفة للتنمية، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية – التكنولوجية، في إطار من كفاية الإنتاج والتوزيع العادل، وتعظيم أدوار “الشركاء الاجتماعيين” في إطار انتقال ديمقراطي منسجم مع الظروف التاريخية للمجتمعات النامية، بما فيها البلدان العربية. ويختم الباحث ورقته باقتراح منظومة “تكامل مفاهيمي” للتنمية البشرية موجَّهة للقضاء على الفقر باستئصاله، وليس بمجرد خفضه أو الحد منه جزئيا. ورفع المستويات التعليمية والصحية في إطار التحسين الجذري لمستوى معيشة الغالبية الاجتماعية، من الطبقات والفئات الفقيرة ومحدودة الدخل والمعطلة والمهمشة، والشرائح خارج مظلة الحماية الاجتماعية. وإعادة “تأصيل” و”تأهيل” الموارد البشرية، معرفيا وعلميا وتكنولوجيا، وتحويلها إلى قوة بشرية منتجة، ضمن “عالمنا في عصرنا”، وفي إطار من ضرورات التحول الهيكلي، والتجاوب مع الآفاق المستجدة للثورة العلمية والتكنولوجية. إلى جانب ترسيخ منظومة العدل الاجتماعي، وإقرار صيغة صحيحة جديدة لتوزيع الثروات.