التلفزيون العربي.. سيرة تحول سريع نحو صناعة الزعيم الأوحد

احتفل التلفزيون التونسي منذ أسابيع بالذكرى الـ50 لتأسيسه. احتفال ذكر بظروف وحيثيات نشأة التلفزيونات العربية، والأدوار التي لعبتها في سياقات الخروج من الاحتلال وبناء الدولة الوطنية. أدوار انتقلت بسرعة من الدور المفترض أي المساهمة في تعميق الوعي الجماعي والدور التثقيفي إلى تشكيل صورة الزعيم الأوحد والحزب الواحد، وهو انتقال يمكن استشفافه من التلفزيونات العراقية والمصرية والتونسية وغيرها.
الاثنين 2016/06/13
التلفزيون المصري أثر في التاريخ المصري المعاصر وتأثر به

تونس - تأسيس التلفزيون التونسي الذي حصل بعد عشر سنوات من خروج المستعمر، جاء في ظرفية عربية موسومة بالاستقلالات وبناء الدولة الوطنية، لذلك تشابهت التجارب التلفزيونية الأولى إلى حد التطابق. وهو تشابه يمكن توصيفه بأن التلفزيونات العربية، مع بعض الاختلافات الطفيفة، كانت في خدمة الأنظمة السياسية الوليدة، وكانت صوتها ومسوق أيديولوجياتها.

لئن كان تأسيس التلفزيون العراقي والمصري أسبق زمنيا من إنشاء التلفزيون التونسي، إلا أن الاستناد إلى تجربة التلفزيون التونسي في صنع صورة الزعيم الأوحد، كانت أكثر جلاء لسببين على الأقل؛ الأول أن النظر البورقيبي للإعلام خضع للعديد من الدراسات التاريخية التي مكنت من التمكن من الظاهرة المشار إليها، أما السبب الثاني فهو أن فترة حكم الحبيب بورقيبة كانت أطول من أقرانه من الرؤساء العرب، فضلا عن كونه تقلد الرئاسة منذ استقلال البلاد، (الاستقلال حصل في العام 1956 وبورقيبة أصبح رئيسا منذ 1957 إلى حدود العام 1987).

الحبيب بورقيبة الذي يحرص على أن يقدم نفسه على أنه صحافي، فضلا عن كونه محاميا، كان يكتب في الصحف الفرنسية مستغلا الحرية التي كانت تتمتع بها، وكان يوجه مقالاته لخدمة "القضية التونسية" كما كان يقول، إلا أن المفارقة أنه بمجرد حصول الاستقلال واعتلائه سدة الحكم، أصبح يتعامل مع الإعلام التونسي (صحافة وإذاعة وتلفزيونا) انطلاقا من مقولة نابليون بونابرت “لو تركت الصحافة تفعل ما تريد لخرجت من الحكم خلال ثلاثة أشهر”. في هذا الصدد يشير مصطفى المصمودي، كاتب الدولة للإعلام في عهد الحبيب بورقيبة، وفي شهادته التي وردت في كتاب “بورقيبة والإعلام.. جدلية السلطة والدعاية” للكاتب خالد الحداد، إلى أن بورقيبة كان “يصنع الحدث ويحرص على نشره وإبلاغه إلى الرأي العام”.

من هنا يمكن أن نفهم دور التلفزيون التونسي، في الفترة الأولى التي تلت تأسيسه والتي تواصلت طيلة فترة حكم الحبيب بورقيبة، وتحول إلى سلوك أقرب إلى القاعدة زمن حكم زين العابدين بن علي. يذكر التونسيون أن التلفزيون التونسي، كان يبث يوميا “توجيهات الرئيس” وهي عبارة عن مقتطفات من خطب الزعيم، إلى درجة انتشار المزحة القائلة بأن “توجيهات الرئيس” هي أطول مسلسل بثه التلفزيون الرسمي.

وكان المشاهد التونسي مضطرا إلى متابعة الزعيم بورقيبة وهو يمارس السباحة أثناء إجازة يقضيها في مدينة المنستير كخبر رئيسي في شريط الأنباء.

التلفزيونات العربية كانت تتشابه في السعي إلى تقديم صورة الزعيم و"القائد الملهم" والحكيم المنزه عن الأخطاء

جدير بالتذكير أن بورقيبة كان يحرص على متابعة أداء التلفزيون الرسمي التونسي (الوحيد) وكان يوجه اقتراحاته ونقده لأداء المؤسسة عبر كاتب الدولة للإعلام الذي ينقل “توبيخ” الرئيس إلى المسؤول عن التلفزيون، وقد يصل الأمر إلى العزل والتغيير إن مرّ برنامج أو خبر في شريط الأنباء لم يعجب بورقيبة. يشار هنا إلى تمرير خبر يشير إلى نقيصة أو تذمر أو مشكلة في جهة من الجهات كان يعني مباشرة عزل مدير التلفزيون.

ويذكر التونسيون أيضا التلفزيون التونسي (والليبي أيضا) كان يتأثر بتغير العلاقات بين الحبيب بورقيبة ومعمر القذافي، وكان تبعا لذلك يكيل الشتائم، أو يمتدح رئيس القطر المجاور الشقيق حسب الظروف والمستجدات.

أداء التلفزيون التونسي، كما غيره من التلفزيونات العربية، كان عاملا محددا (من جملة عوامل أخرى) سرّع في الانتقال بالبلاد نحو حكم الحزب الواحد والزعيم الأوحد، وفقد بذلك دوره المفترض بوصفه وسيلة تثقيف وإعلام وإخبار، ليتّخذ منحى خدمة السلطة القائمة.

جدير بالذكر أن التلفزيون التونسي لم يكن أول تلفزيون يتأسس في العالم العربي فقد سبقه التلفزيون العراقي، وقد بدأ إرساله الأول في صيف عام 1957 في عهد الملك فيصل الثاني الذي أسس تلفزيون بغداد أقدم محطة تلفزيون في الشرق الأوسط والوطن العربي عام 1956. وبعد سنوات قليلة انطلق التلفزيون العراقي في خدمة سياسات حاكم البلاد وكان بوقا يردد ما يطلب منه خاصة في فترة حكم الرئيس صدام حسين حيث كان يبث جولاته وزياراته لمختلف جهات الدولة. ويحرص على بث كل ما يخدم صورة الرئيس “القائد الملهم” الذي يمسك بالبلاد متعددة الانتماءات والطوائف بيد من حديد. لذلك كان صدام حسين حريصا على أن لا يخلو بيت من شاشة التلفزيون، وكان يوزع أجهزة التلفزيون مجانا على الفقراء.

أداء التلفزيون التونسي، كغيره من التلفزيونات العربية، سرع في الانتقال بالبلاد نحو حكم الحزب الواحد والزعيم الأوحد

التركيز على تاريخ التلفزيون التونسي في فترة حكم الزعيم بورقيبة، كان نابعا من طول فترة حكم الحبيب بورقيبة (30 سنة و3 أشهر) وأيضا لوضوح الظاهرة موضوع الدراسة. التلفزيونات العربية كانت تتشابه في السعي إلى تقديم صورة الزعيم و”القائد الملهم” والحكيم المنزه عن الأخطاء.

يكفي أن نتذكر أن التلفزيون المصري كان أثناء حكم جمال عبدالناصر (من 23 يوليو 1952 إلى 28 سبتمبر 1970) كان يمركز أداءه وبرامجه حول شخصية عبدالناصر، وكان متجندا لنقل خطاباته وأخباره وتحركاته، وكان خطابه متأثرا جدا بالمفاهيم والمصطلحات السائدة في تلك الفترة والمشتقة من الظروف السياسية التي تعيشها مصر، “الإمبريالية والاستعمار والوحدة العربية”، والاحتفاء السنوي بذكرى العدوان الثلاثي أو الاستعداد لحرب 1967 أو التفاعل مع نتائجها، ليتواصل الأمر مع خلفه أنور السادات، ولم يخرج التلفزيون المصري عن أدائه المعتاد وكلّ ما فعله أنه غير اسم الرئيس وأوصافه وواصل نقل خطبه ولقاءاته.

التلفزيون التونسي في الذكرى الـ50 لتأسيسه ذكر بقصص نشأة التلفزيونات العربية، وهو ما أتاح استحضار صور كثيرة جدا مما كان يقدم من برامج وأخبار وصور وما كان يسوّق من مصطلحات وأوهام، الحصيلة أن التلفزيون العربي الذي كان “رسميا” جدا و”وطنيا” فقط بمعنى هيمنة الدولة، ساهم في تأبيد صورة الزعيم الأوحد، وكرسها مثالا نمطيا تختلف في التفاصيل من قطر لآخر، إلا أنها تتشابه في عمق تأثيرها.

صورة الزعيم الأوحد لا تصنع فجأة بل تبنى بالتدريج وتحتاج إلى وسائل وآليات كان الإعلام في صدارتها والتلفزيون في القلب منها.

12