التقنيات الجديدة تهدد النقش على النحاس في مصر

النقش على النحاس يدويا من أقدم المهن في القاهرة التاريخية، ومع ذلك، فإن ظهور أساليب جديدة ومتقدمة تعتمد على خفض تكلفة المنتجات المصنعة وتوفيرها بكميات كبيرة يهدد باندثار هذه الحرفة وتلاشي الاهتمام بتعلمها.
القاهرة - يجلس صانع المشغولات النحاسية المصري ناجي كمال محمد في ورشته بمنطقة مصر القديمة وينقش أطباقا من النحاس ممارسا الحرفة اليدوية التقليدية القديمة التي تعلمها في صغره. ويعتبر النقش على النحاس يدويا من أقدم المهن في القاهرة التاريخية، ومع ذلك، فإن ظهور أساليب جديدة ومتقدمة تعتمد على خفض تكلفة المنتجات المصنعة وتوفيرها بكميات كبيرة يهدد باندثار هذه الحرفة وتلاشي الاهتمام بتعلمها.
ويقول محمد الذي يبلغ من العمر 68 عاما “المهنة دلوقت (الآن) زي ما تقول قلّت لأن في تطور ظهر زي مثلا في ناس سافرت برا وعرفت إن الشغل اليدوي دا بيتعمل بالميا (السوائل)، بالمتريون (مادة كيميائية) وماية النار (مادة كاوية) والشمس والغرا (مادة لاصقة) والحاجات دي، وبيطلع متزخرف زي اليدوي."
ويأمل صانع النحاس في بيع ما تبقى لديه من مشغولات، مضيفا أن التحدي الأكبر الذي يواجهه هو قلة الزبائن. ويقول "الصعوبات التي تواجهنا هي قلة الزبائن." كما يرى محمد أن مهنته لا مستقبل لها، على الرغم من أنه والورش المجاورة الأخرى يسعون إلى الحفاظ على الحرفة. وأوضح أنه لا يستطيع العثور على أي شخص متحمس بما يكفي لتعلم هذه الحرفة النادرة التي تتطلب ساعات عمل طويلة لإنتاج قطعة واحدة مع عائد مالي ضئيل مقارنة بالجهد المبذول فيها.
ويزخر "حي النحاسين" في القاهرة بعدد من الورش والمعارض المتخصصة في المشغولات النحاسية، ويحكى هذا الحي تاريخ المهنة في مصر، حيث كان تجار النحاس يتمركزون فيه منذ العصر الفاطمي، لبيع وتصنيع المشغولات النحاسية، ويرجع تاريخ هذا الشارع إلى عام 969م، أي منذ إنشاء القاهرة الفاطمية، حيث يشكل الحرفيون خام النحاس لاستخدامه في صناعة الأواني النحاسية والتحف، عبر عدة مراحل هي الخراطة والسمكرة ثم اللحام فالتلميع والتشطيب.
وحرفة صناعة النحاس والنقش عليه تعتبر من أقدم الحرف في مصر. وبحسب موسوعة مصر القديمة للدكتور سليم حسن، فإن الفراعنة من أوائل الشعوب التي استخدمت النحاس قبل نحو خمسة ألاف عام، حيث أتقنها الكثير من الحرفيين آنذاك، وزينوا بها المعابد وتفننوا في استخدامها في حياتهم اليومية، حيث تشهد أثارهم على ذلك ومن بعدهم توارثها المصريون جيلا بعد جيل حتى أصبحت هناك أماكن بعينها في القاهرة كسوق النحاسين وربع السلحدار والجمالية تشتهر بتصنيعها وبيع منتجاتها ومازالت البعض من تلك الورش باقية إلى اليوم تقاوم الاندثار.
◙ حرفة صناعة النحاس والنقش عليه من أقدم الحرف في مصر والفراعنة من أوائل الشعوب التي استخدمت النحاس
وقدّرت منظمة اليونسكو أهمية تلك الحرفة فاعتبرتها تراثا إنسانيا يجب الحفاظ عليه ودعت الحكومة المصرية إلى تقديم يد العون للصناع وتيسير تصدير منتجاتهم إلى الأسواق العالمية لتشجيعهم على الاستمرار في مزاولتها.
وكانت للنحاس أهمية في حياة المصريين، فقد كان أثاث العروس لا يكتمل إلا بطاقم الحلل النحاسية وصينية الأكل و”طشت” الغسيل وبراد الشاي والهون، وكذلك موقد الكيروسين وقبل كل هذا “الطنجرة” وهو إناء كبير الحجم بغطاء شبيه بقبة المسجد يستعمل في الولائم والأفراح ويوضع فيه الطعام الرئيسي “الفتة بالكوارع والمحشي والأرز باللحم” ليأكل منه جميع أفراد الأسرة.
عن أحوال مهنته، سبق أن تحدث نقاش النحاس المصري محسن محمد بنبرة فيها الكثير من الحزن قائلا “معظم من يمتهن هذه المهنة تركها في الوقت الحالي؛ بسبب عوامل من أهمها ضعف حركة البيع والشراء.. مثلا أنا ورشتي كان يعمل بها 18 عاملًا، وحاليًا تضم ثلاثة فقط.”
وتابع محمد في ورشة عائلته بحي النحاسين، وهي تعود إلى عام 1920 “أولادي رفضوا العمل معي، والمهنة تمرّ بأسوأ أيامها، ورغم ذلك لن أتركها أبدًا، حتى وإن اشتد الأمر سوءًا، فهي مهنة أجدادي.” ولكي تستمر مهنة النقش اليدوي على النحاس، يقترح النقاش المصري أن “تقوم السفارات والقنصليات المصرية في الخارج بإقامة معارض دولية لعرض المشغولات النحاسية، إضافة إلى منح الأجانب هدايا من هذه المنتجات لجذبهم إلى مصر.”
بجوار ورشة محمد، يقف مصطفى كمال، وهو شاب ثلاثيني، حاصل على درجة جامعية في القانون، داخل ورشته، التي لم يعمل بها إلا منذ ثلاث سنوات فقط، مدفوعا بتشجيع والده للعمل في فن النقش على النحاس.
يقول معظم الحرفيين إنه منذ عام 2011 وانهيار السياحة، انهارت معها المهنة، ويطالب هؤلاء من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي استيراد المواد الخام وتوصيلها إليهم دون جشع التجار ورجال الأعمال أو بعث جمعية تتولى ذلك. ويشير النقاش محمد إلى أنه من أجل المحافظة على هذه المهنة من الاندثار، بدأ في إنشاء ورشة عمل لتدريب الراغبين في تعلم هذه المهنة.
ويقول إن “من يرغب في تعلم هذه المهنة في الوقت الحالي يتعلمها ليس من أجل استخدامها كمهنة تدر عليه عائداً مادياً، بل لأنه يحبها، وبالفعل بدأت في تدريب خمسة طلاب.”
ويقول سامر فواز أحد الراغبين في تعلم مهنة النقش على النحاس “أنا أرغب في تعلم مهنة النقش على النحاس لأنها من المهن التي تتميز بالطابع الفني الإبداعي.” ويضيف “أريد تعلم هذه المهنة لأنني أحبها وليس لهدف الربح المادي، فأنا أعلم أن دخلها ضعيف، ولكن الرسم على النحاس بالنسبة إليّ فيه متعة كبيرة.”