التقسيم الإداري يجعل شمال غرب سوريا في مواجهة محنة

التدخلات التركية أدّت إلى جعل مساحات شاسعة من المناطق الحدودية شمال غرب سوريا خارج نطاق وصول القوات الحكومية السورية، ما سهّل ظروف نشوء كانتون في وقت لاحق.
الخميس 2024/02/29
معاناة لا مستقبل منظورا لنهايتها

دمشق - تحوّلت منطقة شمال غرب سوريا إلى كانتون (تقسيم إداري) يتمتع بحماية تركيا ودعمها، ويعتمد عليها. ونظرًا إلى الاحتمالات الضئيلة بأن يحقّق طرف ما نصرًا حاسمًا في الحرب السورية أو أن يتم التوصل إلى حل سياسي، تولّت تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري مهام إدارة النزاع في الشمال الغربي منذ العام 2016، ما وضع المنطقة في محنة.

ويتّسم الكانتون بأنه إقليم غير خاضع لسلطة الدولة السورية، وتابع للإطار الأمني التركي فوق الوطني، ويعتمد في بقائه واستمراره على العلاقات الاقتصادية والسياسية مع أنقرة، ويقطنه سكان لم يستطع النظام إعادة دمجهم في هيكلية الدولة، أو لم تكن لديه الرغبة في ذلك.

وبعد بدء التدخل العسكري الروسي في العام 2015، شنّت القوات الحكومية السورية وحلفاؤها هجمات لاستعادة السيطرة على معاقل المعارضة، فبات النزاع السوري يتركّز بشكل أساسي في المناطق الحدودية الشمالية، حيث نشأ الكانتون.

وبدأت المحطة الأساسية على مسار تحويل الشمال الغربي إلى كانتون في أواخر العام 2016، حين استعادت القوات الحكومية السورية وحلفاؤها السيطرة على شرق مدينة حلب، ونفّذت تركيا توغّلها العسكري الأول في سورية.

وكانت إحدى نتائج الانتصارات التي حقّقتها الحكومة السورية طرد 200,000 شخص إلى المنطقة التي تحوّلت إلى كانتون في الشمال الغربي، ما رسّخ طابعها الجيوسياسي السنّي الريفي المُعارض بشدة للنظام.

ويقول أرميناك توكماجيان الباحث غير المقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في تقرير نشره المركز إن القرارات التي أفضت إليها الاجتماعات الثنائية، ولا سيما بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والاجتماعات متعدّدة الأطراف مثل عملية الأستانة، شكّلت أُطرًا للتوصل إلى اتفاقات مشتركة حول سورية، ما أحدث تغييرات في شمال غرب البلاد.

التعديلات انطوت على الكثير من المعاناة، بدءًا من الحرب ووصولًا إلى التغييرات الديموغرافية والتنافس على الموارد

ويمكن اعتبار تحوّل منطقة شمال غرب سوريا عمليًا إلى كانتون على أنه شكل بديل من أشكال إدارة النزاع، أتى استجابةً إلى الحرب السورية التي لم تُفضِ إلى انتصار حاسم لصالح طرف معيّن أو إلى حل سياسي.

ونتجت العملية المتواصلة لتحويل الشمال الغربي إلى كانتون من إقدام روسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد باستمرار على إدخال تعديلات على الجوانب الأمنية والديموغرافية والاقتصادية والسياسية للشمال الغربي، بحسب ما تمليه مصالحها.

ويُرجَّح أن تتواصل عملية تعديل الكانتون لأن الدول الأربع المنخرطة في شمال غرب سوريا غير راضية عن الوضع الراهن، وقد ازدادت تفاعلاتها مع بعضها البعض.

وانطوت التعديلات التي شهدها الشمال الغربي منذ العام 2016 على الكثير من المعاناة والمشقات، بدءًا من الحرب والتدابير الأمنية، ومرورًا بموجات النزوح الجماعي والثورات المُحبَطة، ووصولًا إلى التغييرات الديموغرافية والتنافس الحاد على الموارد المحدودة. وفي حال أُجريت المزيد من التعديلات على الكانتون، من المستبعد أن تكون أقل إيلامًا من سابقتها، ذلك أن المدنيين سيتكبّدون الخسائر الأكبر.

واتُّخذت الخطوة الأولى على مسار تحويل الشمال الغربي إلى كانتون في أواخر العام 2016، حين شنّت القوات التابعة للنظام هجومًا على مدينة حلب واستعادت السيطرة عليها كاملةً، وأطلقت تركيا عملية درع الفرات.

و أدّت التدخلات التركية اللاحقة إلى جعل مساحات شاسعة من المناطق الحدودية شمال غرب سوريا خارج نطاق وصول القوات الحكومية السورية، ما سهّل ظروف نشوء كانتون في وقت لاحق.

واتّسم الكانتون في سوريا بأربعة عوامل. أولًا، أصبح الشمال الغربي أكثر تجذّرًا في الإطار الأمني التركي فوق الوطني الذي يركّز على المنطقة الحدودية مع سورية. وثانيًا، حدّدت الأولويات التركية إلى حدٍّ كبير السياسة في الكانتون. وثالثًا، أصبح الشمال الغربي ملاذًا لـ4.5 ملايين سوري، وعدد كبيرٌ منهم معارض لنظام الرئيس السوري بشار الأسد مع قاعدتهم الاجتماعية. ورابعًا، أصبحت المنطقة، على الصعيد الاقتصادي، أكثر اعتمادًا من ذي قبل على الحدود التركية في التجارة والمساعدات الإنسانية.

يُرجَّح أن تتواصل عملية تعديل الكانتون لأن الدول الأربع المنخرطة في شمال غرب سوريا غير راضية عن الوضع الراهن، وقد ازدادت تفاعلاتها مع بعضها البعض

وباتت هذه الخصائص الأربع أكثر تجذّرًا مع مرور الوقت من خلال إجراء تعديلات في الكانتون. فابتداءً من العام 2016، شهد الشمال الغربي مسارًا مؤلمًا إلى حدٍّ كبير فرضته روسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد لإعادة رسم معالم الكانتون عسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

وأدّى ذلك إلى تغييرات كبرى في السيطرة، وأسفر عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا في صفوف العسكريين والمدنيين. وأطلق أيضًا نزوحًا سكانيًا كثيفًا، وأحدث تغييرًا كبيرًا في الخصائص الاجتماعية السياسية والاجتماعية الاقتصادية التي كانت سائدة في المنطقة قبل الحرب، معبّرًا عن الأولويات الروسية والتركية والإيرانية وأولويات النظام السوري.

ولا يزال الشمال الغربي جزءًا من سوريا، من دون أي تطلعات معلنة للحكم الذاتي أو الانفصال. ولكن منذ العام 2016، واليوم بصورة خاصة، ازداد انعزال الشمال الغربي عن سائر مناطق سوريا وسط غياب أي إطار وطني قابل للاستمرار لإعادة توحيده مع باقي البلاد.

وبدلًا من ذلك، أصبحت المنطقة فعليًا أكثر اندماجًا في الإطار الأمني الحدودي التركي، ولا يمكنها أن تتواجد، في صيغتها الحالية، إلا ضمن ذلك الإطار.

وتحوّل الشمال الغربي من كونه إحدى النقاط الساخنة للانتفاضة السورية إلى معقل للمعارضة المسلّحة ضد السلطة السياسية المركزية، أي دمشق، ثم أصبح، اعتبارًا من العام 2016، منطقة عازلة تحميها القوات المسلّحة التركية.

وقد أُعيد دمج المناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها بعد التدخل الروسي مثل الغوطة الشرقية في ريف دمشق والجنوب السوري – في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام وأصبحت دمشق من جديد المركز السياسي.

وفي المقابل، تم دمج الشمال الغربي بالدرجة الأولى في الإطار الأمني الذي أرسته تركيا عند حدودها الجنوبية، ليكون بمثابة ثقل موازن في مواجهة القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في الشرق. وهكذا، تحوّلت أنقرة إلى المركز السياسي للمنطقة.

وتحوّل الشمال الغربي إلى منطقة خارجة عن سيطرة نظام الأسد وعن الإطار الوطني السوري، وبات جزءًا من إطار أمني فوق وطني على الحدود التركية. في الواقع، تجمع المنطقة ما تبقّى من القوى السياسية المعارِضة للنظام، وتدور في فلك بعيدٍ عن نفوذ دمشق. ومع ذلك، خسر الشمال الغربي في طور هذه العملية جزءًا كبيرًا من دوره، وبات بقاؤه السياسي والاقتصادي والعسكري يعتمد على أنقرة. ولا شكّ من أن ظاهرة الكانتون المتواصلة هذه لن تزول في المستقبل القريب.

6