التغييرات المناخية تحفر جروحا غائرة في نفسية البشر

صار من المؤكد أن إصرار الشباب في مختلف دول العالم على بحث حلول عاجلة للتغييرات المناخية، مأتاه خطورة الأضرار التي يمكن أن تخلّفها الغازات الدفيئة والكوارث الطبيعية بأنواعها على الإنسان وخاصة على المستوى النفسي، هذا ما تؤكده البحوث والدراسات والأطباء النفسيين الذين يشيرون إلى حاجة متزايدة إلى توجيه رعاية طبية نفسية متخصصة للتغير المناخي.
رومسون (نيوجيرزي)- ذات ليلة مطيرة جلس خمسه أشخاص في رواق بالدور السفلي في إحدى الكنائس في دائرة وأمامهم بعض الأطعمة الخفيفة، حيث دار الحوار بينهم حول مشاكلهم الشخصية.
لم يأت أيّ منهم لبحث إدمان الكحول أو المخدرات أو القمار، فقد كان هذا هو اللقاء الأول في برنامج يستمر عشرة أسابيع لدعم الأقران بهدف مساعدة من يعانون من الاكتئاب والاضطراب بسبب التغيّر المناخي.
قال مدرب الكلاب ديفيد فريت (52 عاما)، الذي حضر اللقاء في هذه المدينة الساحلية بعد مشاهدة إعلان عنه، “بعض ما يسبب لي القلق أن عدد من يعترفون بالمشكلة ضئيل جدا. وعندما تجد أن العلماء يقولون إن أمامنا عشر سنوات لتنفيذ إجراءات سياسية، فكيف تفكر في ادّخار مال لتعليم ابنتك في الجامعة؟”.
وتفيد البحوث أن عددا من الكوارث البيئية المرتبطة بالاحتباس الحراري تساهم في تفاقم بعض الحالات النفسية والعقلية. وتشمل هذه الكوارث البيئية، الفيضانات، الأعاصير العاتية، حرائق الغابات وغيرها، إضافة إلى الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة.
وتشير مثلا دراسة أسترالية إلى وجود علاقة بين الاضطرابات النفسية والذهنية، وما بين معدلات حرارة الطقس عموما. وتتزامن هذه العلاقة أيضا مع اضطرابات جسدية مثل تلك التي ترتبط بأمراض القلب والأوعية والكلى.
تذهب بعض الدراسات إلى القول بأن الارتفاع المتزايد في درجات الحرارة يؤدي إلى تزايد السلوك العنيف لدى الإنسان، حيث تمت مقارنة عمليات الإجرام والعنف بدرجات الحرارة العامة للطقس، فخرج الباحثون باستنتاج مفاده أن هنالك علاقة إحصائية واضحة بين المتغيّرين. ومن المثير للاهتمام أن بعض الدراسات الأخرى تربط ما بين الارتفاع الأخير في درجات الحرارة العالمية وبين حالات الانتحار بين الناس، إذ تعتبر هذه الدراسات أن معدل حالات الانتحار (وخاصة العنيفة منها) يزداد بازدياد درجات حرارة الطقس.
ومن المعلوم بين الباحثين في الطب النفسي، أن الأفراد الذين تعرضوا لكوارث مشابهة هم أكثر عرضة لتداعيات نفسية جدية لاحقا، من قبيل اضطراب ما بعد الصدمة.
وتشمل أعراض هذا الاضطراب ذكريات مزعجة راسخة من الحدث ومحاولات الشخص تجنب أي شيء مرتبط بالحدث. ويمكن أن تستمر هذه الأعراض على مدى أشهر وسنوات.
ولعل ما يلفت الاهتمام هو أن بعض الدراسات العلمية تشير إلى علاقة وثيقة بين الجفاف والتصحر والحالات النفسية المتدنية للمزارعين، وخصوصا تزايد نسب الانتحار بينهم. فقد لاحظ الباحثون أن هنالك نزعة لتطوير اضطرابات نفسية جدية بين المزارعين الذين يعملون في مناطق تعرّضت للتصحر، ويشمل ذلك مناطق في الدول النامية والمتطورة على حد سواء.
ويسعى عدد متزايد من الناس في الولايات المتحدة وأستراليا وكندا وبريطانيا، إلى المشاركة في مجموعات الدعم في حالات القلق المناخي بعد اقتناعهم بتقارير علمية مشؤومة عن الاحتباس الحراري العالمي، وفقا للمسؤولين عن إدارة تلك المجموعات.
ويقول بعض الأطباء النفسيين إن الاتجاه العام يشير إلى حاجة متزايدة لتوجيه رعاية طبية نفسية متخصصة للتغير المناخي.
وفي تقرير صدر عام 2018 من الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، قدّر العلماء أن ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى نقطة اللاعودة قد يحدث في غضون 11 عاما إذا لم يتم تخفيض الانبعاثات الكربونية العالمية بشكل كبير.
وقالت لا أورا شميت، التي شاركت في تأسيس شبكة مجموعات الدعم للقلق المناخي، التي تنتمي إليها المجموعة والتي التقى أفرادها في نيو جيرزي، “الناس يشعرون أنهم معزولون. العمل يسير كالمعتاد دون أي قلق تقريبا على ما يحدث على صعيد التغير المناخي”.
بدأت شميت مع إيمي لويس ريو شبكة غود غريف (الحزن الصالح) في 2016 لمن يعانون من القلق من التغير المناخي. ولا تعمل أي منهما كخبيرة نفسية أو تدّعي أنها تقدم المشورة.
والتقت أول مجموعة لدعم الأقران في غرفة المعيشة بمنزل أحد المشاركين في سولت ليك سيتي بولاية يوتا. ومنذ ذلك الحين طورت الاثنتان البرنامج المكون من عشر خطوات، وأصبحتا تركّزان على توسعة منظمتهما بتدريب المسؤولين عن إدارة الجلسات. تقول الجمعية الأميركية للطب النفسي إن التغير المناخي، بما في ذلك الأحوال الجوية السيئة وارتفاع درجات الحرارة ومستويات البحار، له آثار ضارة على الصحة النفسية.
ومن المرجح أن تزداد هذه الآثار سوءا، لاسيما في أوساط الفئات السكانية المعرضة للخطر مثل الأطفال والمهاجرين ومن يعانون من أمراض نفسية. ولا تصنف الجمعية النفسية “القلق المناخي” كأحد الأمراض النفسية.
قدّر العلماء أن ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى نقطة اللاعودة قد يحدث في غضون 11 عاما إذا لم يتم تخفيض الانبعاثات الكربونية العالمية بشكل كبير
وقال جو رزيق الخبير النفسي المختص في الصدمات، والذي تولى تدريب خبراء في الصحة النفسية لمعالجة الناجين من حرائق غابات كاليفورنيا، إن القلق المناخي مُبّرر، لكنه حذر من اعتباره مرضا نفسيا قائما بذاته، مضيفا أنه من الضروري إجراء المزيد من الدراسات.
وقالت شميت إن بعض أفراد مجموعات الدعم للقلق المناخي تأثروا بكوارث طبيعية، لكن أغلبهم يشاركون انطلاقا من إحساس باليأس. وقال عدد من خبراء الصحة النفسية إن جماعات دعم الأقران مفيدة، لكنها لا تفي بالحاجة لتقديم الرعاية النفسية المتخصصة.
وقالت الطبيبة النفسية ليز فان سوسترن، التي لها كتابات موسعة في عواقب التغير المناخي على الصحة النفسية، “لا توجد استراتيجية منهجية موحدة لمساعد المتضررين”.
ويقول خبراء إن تحرك الناشطين ربما يكون وسيلة أخرى للتعامل مع القلق، فقد أُصيبت الفتاة السويدية غريتا تونبري، التي أطلقت حركة عالمية بالإضراب عن الدراسة احتجاجا على التراخي السياسي، باليأس وهي في سن الحادية عشرة عندما أدركت فداحة التغير المناخي وضآلة ما يبذله الساسة في هذا المضمار.
وقالت تونبري في حوار ببرنامج تيد توك “توقفت عن الكلام وامتنعت عن الأكل”.
وقالت فان سوسترن إن الحركة التي بدأتها تونبري انطلاقا من شعورها بالاكتئاب وضرورة التحرك، مثال على النتيجة الإيجابية التي يمكن أن يحدثها القلق المناخي.