التغير المناخي أكبر تهديد صحي تواجهه البشرية

يتوقع الخبراء أن تتبع تغير المناخ موجات حرارة شديدة ومتواترة، ما من شأنه أن يرفع معدلات الوفيات بين الأطفال والنساء وكبار السن في البلدان الأقل نموا بدرجة أولى. كما أن الاحترار سيدفع البعوض والطيور إلى التجول خارج بيئاتها الطبيعية، ما سيزيد من خطر نشرها الأمراض المعدية، بالإضافة إلى زيادة خطر الإصابة بالأمراض التي تنقلها المياه مثل الكوليرا والتيفوئيد والإسهال.
باريس - دفع تزايد الدعوات العالمية للتعامل مع تأثيرات الاحترار المناخي العديدة على صحة البشر إلى جعل المسألة محور اليوم الأول من مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب 28) الذي سينطلق الأسبوع المقبل في دبي.
فالحرارة الشديدة وتلوث الهواء والانتشار المتزايد للأمراض المعدية والقاتلة ليست سوى بعض الأسباب التي دفعت منظمة الصحة العالمية إلى وصف التغير المناخي بأنه أكبر تهديد صحي تواجهه البشرية.
وبحسب المنظمة يجب أن يقتصر الاحترار المناخي على هدف اتفاق باريس المتمثل في 1.5 درجة مئوية “لتجنب الآثار الصحية الكارثية ومنع ملايين الوفيات المرتبطة بتغير المناخ”.
وكانت الأمم المتحدة حذرت الأسبوع الماضي من أن الالتزامات المناخية الحالية للدول في العالم أجمع تضع الكوكب على مسار احترار كارثي يصل إلى 2.9 درجة مئوية خلال هذا القرن، في ما يتجاوز إلى حد بعيد السقف الذي حدده المجتمع الدولي.
وفي حين لن يبقى أي من البشر في منأى عن التأثر بتغيّر المناخ، يتوقع الخبراء أن يكون معظم المعرضين للخطر من الأطفال والنساء وكبار السن والمهاجرين والأشخاص في البلدان الأقل نموا والأقل تسبّبا في انبعاث غازات الدفيئة المسببة للاحترار المناخي.
الخبراء يتوقعون أن يكون معظم المعرضين للخطر من الأطفال والنساء وكبار السن والأشخاص في البلدان الأقل نموا
وسينظم مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب 28) في دبي “يوم الصحة” الأول من نوعه على الإطلاق في مفاوضات المناخ خلال الثالث من ديسمبر المقبل.
ويتوقع على نطاق واسع أن يكون العام 2023 هو الأكثر سخونة على الإطلاق. ومع استمرار ارتفاع حرارة الأرض، من المتوقع أيضا أن تتبع ذلك موجات من الحرارة أكثر تواترا وأشد حرّا.
ويعتقد أن الحرارة تسببت في أكثر من 70 ألف حالة وفاة في أوروبا خلال صيف 2022، بحسب ما أعلنه باحثون هذا الأسبوع، بزيادة عن التقديرات السابقة التي كانت عند مستوى 62 ألف وفاة.
وذكر تقرير عن مجلة “لانسيت” الطبية صدر مؤخرا أنه في العام 2022 تعرّض البشر لدرجات حرارة قد تسبب الوفاة لمعدل 86 يوماً، موضحا أنّ عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً ولقوا مصرعهم بسبب الحرّ ارتفع بنسبة 85 في المئة بين 1991 – 2000 و2013 – 2022.
وبحلول عام 2050 سيتضاعف عدد الوفيات بسبب الحرارة سنويا أكثر من خمس مرات، في ظل سيناريو ارتفاع درجة الحرارة بمقدار درجتين مئويتين.
وستؤدي زيادة حالات الجفاف إلى ارتفاع مستويات الجوع. ومن المتوقّع أن يعاني نحو 520 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي بدرجة متوسطة أو حادّة بحلول منتصف القرن، بحسب ما نشرته “لانسيت”.
وفي غضون ذلك ستستمر الظواهر الجوية المتطرفة الأخرى، مثل العواصف والفيضانات والحرائق، في تهديد صحة الناس في جميع أنحاء العالم.
ويتنفس ما يقارب 99 في المئة من سكان العالم هواء ملوثّا بمعدلات تتخطى إرشادات منظمة الصحة العالمية. ويتسبب تلوث الهواء الخارجي الناجم عن انبعاث الوقود الأحفوري في وفاة أكثر من أربعة ملايين شخص كل عام، وفقا للمنظمة.
وهو ما يزيد من خطر الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والسكتات الدماغية وأمراض القلب وسرطان الرئة والسكري وغيرها من المشاكل الصحية، مما يشكل تهديدا يعد مماثلا لمخاطر التبغ.
وينجم الضرر جزئيا عن جسيمات دقيقة (بي إم 2.5) يأتي معظمها من الوقود الأحفوري. ويتنفس الناس هذه الجزيئات الصغيرة وتدخل الرئتين حيث بإمكانها بعد ذلك الانتقال إلى مجرى الدم.
وبينما تؤدي الزيادات في تلوث الهواء، مثل الظروف التي شهدتها العاصمة الهندية نيودلهي في وقت سابق من هذا الشهر، إلى مشاكل في الجهاز التنفسي والحساسية، يُعتقد أن التعرض المستمر لتلوث الهواء سيكون أكثر ضررا.
وبالرغم من ذلك تبرز بعض الأنباء الجيدة. فقد خلص تقرير مجلة “لانسيت” إلى أن الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء بسبب الوقود الأحفوري تراجعت بنسبة 16 في المئة منذ عام 2005. ويرجح أن ذلك يعود إلى الجهود المبذولة للحد من تأثير حرق الفحم.
وسيدفع تغير المناخ البعوض والطيور والثدييات إلى التجول خارج بيئاتها الطبيعية، ما يزيد من خطر نشرها الأمراض المعدية.
وتشمل الأمراض المنقولة من البعوض، والتي تهدد بانتشار أكبر بسبب التغير المناخي، حمى الضنك وشيكونغونيا وزيكا وفايروس غرب النيل والملاريا.
وقد يرتفع معدّل انتقال حمى الضنك بنسبة 36 في المئة، بحسب تقرير “لانسيت”، مع ارتفاع حرارة الأرض بمقدار درجتين.
وتترك العواصف والفيضانات خلفها مياها راكدة تشكل أرضية خصبة للبعوض، بالإضافة إلى زيادة خطر الإصابة بالأمراض التي تنقلها المياه مثل الكوليرا والتيفوئيد والإسهال.
ويتخوف العلماء أيضا من إمكانية تشارك الثدييات التي تتجول في مناطق جديدة الأمراض مع بعضها البعض، ما قد يتسبب في ظهور فايروسات جديدة قد تنتقل بعد ذلك إلى البشر.
ويحذر علماء النفس من أن القلق بشأن حاضر الكوكب ومستقبله يتسبّب أيضا في زيادة الاكتئاب وحتى إجهاد ما بعد الصدمة، خاصة للأشخاص الذين يعانون بالفعل من هذه الاضطرابات.
وفي الأشهر العشرة الأولى من 2023 بحث الأشخاص عبر الإنترنت عن مصطلح “القلق المناخي” بأكثر من 27 مرة من الفترة ذاتها عام 2017، وفقا لبيانات من مؤشرات غوغل نشرت هذا الأسبوع.
وقال عالم النفس السريري والكاتب فاتح تركمان أوغلو إن تغيّر المناخ أدى إلى جنوح الإنسان نحو العدمية (فقدان الإيمان بأي معنى للحياة)، وقد بلغ ذلك مستويات غير مسبوقة.
وأشار إلى أن هناك أفكارا شائعة خاصة بين الشباب، تفترض أن تغير المناخ واقع لا يمكن تغييره، مما يسبب النزوع نحو العدمية.
الأمم المتحدة تؤكد أن الالتزامات المناخية الحالية للدول في العالم أجمع تضع الكوكب على مسار احترار كارثي يصل إلى 2.9 درجة مئوية خلال هذا القرن
وأضاف أن الشبان الذين يعتقدون أن العالم يقترب من نهايته والمياه تنفد يتزايدون، ولهذا بدأوا يتخلّون عن أحلامهم ويعيشون الحاضر فقط.
وأكد تركمان أوغلو أن تغير المناخ في بعض البلدان، مثل تركيا التي تضررت منه كثيرا، أدى إلى تقلبات غريبة في الطقس حاليًا، حيث يكون باردا جدا في يونيو وحارقًا في سبتمبر، “على عكس ما تعلمناه من الطبيعة”.
واعتبر أن تغير المناخ يمثل خيانة للطبيعة البشرية، وآثاره غير طبيعية على البشر وأجسادهم، “حيث يضعنا في حالة صدمة”.
وفي معرض حديثه عن القلق الناجم عن تغير المناخ وآثاره السلبية قال أوغلو “إن ذلك يسبب القلق والشعور باللامبالاة، ويجعل الناس يشعرون باهتزاز عاطفي”.
وأشار إلى أنه من غير المرجح أن يسبب تغير المناخ مشاكل أكثر خطورة للصحة العقلية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة أو الهوس والاكتئاب.
وقال “كل نوع من أنواع القلق يمكن أن يؤدي مثلا إلى اضطراب ثنائي القطب، أو الاكتئاب الهوَسي الذي يسبب تقلبات مزاجية حادّة”.
وأضاف “من السابق لأوانه تأكيد ما إذا كان تغير المناخ يسبب أي حالة معينة غير القلق”، مشددًا على أن القلق عادة ما يسبب اضطرابا نفسيا أكثر خطورة.
وأكد على أن طبيعة تغير المناخ غير القابلة للتنبؤ بها قد حولت الناس إلى “بشر بدائيين يحاولون حماية أنفسهم لا أكثر، دون مخططات للمستقبل”.
وقال “أكثر ما يزيد القلق بين الناس هو حقيقة أن كل شيء يتخذ طابع التطرف والقسوة”، مشيرا إلى الطقس القاسي الذي أصبحت أحداثه متكررة بشكل متزايد في جميع أنحاء العالم.