التعداد السكاني في العراق: تنمية مستقبلية أم صراع سياسي مرتقب

استخدام نتائج التعداد سياسيا في الانتخابات يزيد الانقسامات والتوترات.
الاثنين 2024/12/02
توظيف التعداد يعكس مآربه

بالرغم من كل الأزمات التي تواجه العراق، يمثل التعداد السكاني فرصة ثمينة نحو مستقبل أفضل للعراقيين، من خلال فهم التركيبة السكانية للبلاد، وما يحتاجه المواطنون وتلبية احتياجاتهم التي تكفل لهم فرص العمل والتوزيع العادل للثروات، لكن توظيف نتائجه في الانتخابات قد يعمق الخلافات السياسية المستحكمة.

بغداد – منذ عقود، جرت العادة أن تجري الحكومة العراقية تعدادها السكاني كل 10 سنوات، وقد أُجري آخر تعداد سكاني في زمن النظام السابق عام 1997، لم يشمل إقليم كردستان العراق (أربيل وسليمانية ودهوك)، ومنذ وقتذاك، لم تنجح الحكومات اللاحقة (ما بعد 2003) في إجراء عمليات التعداد لأسباب منها أمنية والتوتر الطائفي، وأخرى بسبب الصراع السياسي بين القوى الكبرى والخلافات على المناطق المتنازع عليها بين حكومة المركز والإقليم، تبعتها التهديدات الإرهابية واحتلال تنظيم داعش لثلث مساحة البلاد عام 2014، حتى طرد بالكامل من الأراضي العراقية في عام 2017.

وبعد ذلك، حدثت تأخيرات أخرى بسبب عدم وجود تخصيصات مالية، ومن ثم تفشي وباء كورونا، حالت دون إجراء التعداد الذي طال انتظاره. وعوضا عن الاعتماد على بيانات إحصائية دقيقة مستمدة من التعداد السكاني الذي جرى خلال هذه الفترة، اعتمدت الحكومة العراقية على الإحصاءات التخمينية الموجودة لدى وزارة التخطيط ووزارة التجارة والدوائر القريبة من المواطنين.

ويرى الصحافي العراقي المستقل أزهر الربيعي في تقرير نشره معهد واشنطن أن هذه التقديرات تُخلّف آثارا كبيرة على مخصصات الإنفاق الحكومي. وعلى وجه الخصوص، تنفق الحكومة العراقية ما يقرب من 1.5 مليار دولار سنويا لتوزيع المواد الغذائية على أكثر من 39 مليون عراقي من خلال القسائم الغذائية.

وفي حين يُفترض أن يوفر هذا التوزيع للحكومة تقديرّا دقيقا لعدد السكان العراقيين من الناحية النظرية، إلا أن إخفاقها في توزيع القسائم الغذائية بانتظام أدى إلى عزوف الملايين من العراقيين عن الاستفادة من هذه المخصصات.

التعداد السكاني ليس مجرد أرقام تتراكم، بل هو وسيلة حاسمة لتحديد القرارات الحكومية الحيوية والفعالة

وبالإضافة إلى ذلك، بدأت الحكومة العراقية تقليص المواد الغذائية المتاحة ضمن هذه القسائم. وقد ترتب على هذه المشكلات خلل في دقة بيانات نظام القسائم الغذائية، إذ توفي العديد من الأشخاص أو وُلد آخرون دون أن يتم تحديث معلوماتهم.

وفي حين يعتبر العديد من المواطنين الذين يتقاضون راتبا شهريا يقارب 1000 دولار أو أكثر غير مؤهلين للحصول على هذه القسائم الغذائية، إلا أن الكثير منهم يتحايلون على النظام للاستفادة منها.

وعلاوة على ذلك، يمكن الاستفادة من بيانات التعداد السكاني الحديثة لضمان تقديم هذه المساعدات بشكل أكثر فعالية، علاوة على معالجة القيود التي تعوق الاعتماد على التقديرات المستندة إلى هذا النوع من البيانات.

وعلى هذا النحو، جاء التعداد الحالي وفقا لما تبناه منهاج رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، والذي أكد في بيان متلفز، نشره الموقع الرسمي لمجلس الوزراء، قال فيه “إن التعداد ليس مجرد أرقام تتراكم، بل هو الحد الفاصل بين التخمين والحقائق، ووسيلة حاسمة لتحديد القرارات الحيوية والفعالة.”

وهكذا، أصبح التعداد السكاني الجديد الذي أُجري الأسبوع الماضي، الأول من نوعه منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، إذ تم تنفيذه على مدار يومين متتاليين (20 – 21 نوفمبر 2024)، سبقته تحضيرات لتدريب نحو 120 ألفا من الباحثين الجوّالين المسؤولين عن تعداد السكّان والمساكن. وفرضت السلطات الأمنية حظر التجوال، فيما سمحت للفرق الطبية والفرق الإعلامية وبعض الحالات الإنسانية بالحركة في المدينة.

وأعلنت وزارة التخطيط العراقية أن النتائج النهائية التفصيلية للتعداد السكاني ستعلن خلال شهرين من انتهاء التعداد، بعد تجميع وتصنيف وتبويب البيانات ومن ثم الإعلان عنها كجداول ومؤشرات عامة لحالة السكان في العراق.

وأما النتائج الأولية، فأعلنت يوم الاثنين الموافق للخامس والعشرين من نوفمبر، إذ بلغ عدد السكان في العراق نحو 45.4 مليون نسمة، من ضمنهم الأجانب واللاجئون. وكانت نسبة الذكور 50.18 في المئة ونسبة الإناث 49.82 في المئة، ومعدل النمو السنوي 2.33، إضافة إلى مؤشرات أخرى تتعلق بحجم الأسرة، والأعمار، وسكان الريف، والحضر.

تغيير التركيبة السكانية

oo

زاد الجدل حول حذف مفردة “القومية” من أسئلة التعداد السكاني، وطالبت جهات سياسية بتضمين القومية لضمان حقوق المكونات كافة، واعتبروه تعدادا منقوص المضمون، ولا يعطي معلومات دقيقة على هوية من يعيش في تلك المنطقة وتعددهم العرقي والقومي، فيما يرى آخرون أن تضمين القومية في التعداد قد يؤدي إلى حساسية سياسية، خصوصا أن للبلد تاريخا طويلا مع الصراعات ما بعد عام 2003، فيما يشعر مواطنون يسكنون في مناطق غير مستقرة أمنيا، بالقلق من إمكانية إساءة استخدام معلوماتهم الشخصية من أجل غايات سياسية وأمنية.

وقال المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية عبدالزهرة الهنداوي “بخصوص القومية، كانت سببا في فشل مشروع التعداد السكاني خلال الأعوام الماضية، هناك مخاوف تراود الكثير من الأطراف في حالة وجود هذا السؤال، ولذلك صار التوافق والاتفاق على حذف هذا السؤال من أسئلة استمارة التعداد كضمانة لتنفيذ المشروع، وليس هناك إقصاء لأي مكون بحذفها، نحن لا نتحدث عن مكونات بقدر ما نتحدث عن مواطن عراقي.” وأضاف “عندما يكون المواطن بحاجة إلى مستشفى أو مدرسة أو طريق أو ماء شرب أو كهرباء أو خدمات أخرى، بالتأكيد هنا ستذوب قضية المكون. نعم قد ينتج عن حذف القومية خلل بيانات بشأن واقع المكونات في العراق كقوميات، ولكن في نهاية المطاف أن نربح 95 في المئة ونخسر 5 في المئة هذا منطق أفضل من أن نخسر 100 في المئة وأقصد هنا أن نسبة البيانات المتعلقة بسؤال القومية كمقاربة للأسئلة العامة تمثل 5 في المئة.”

ولا يتفق الباحث الاقتصادي والسياسي عمر الحلبوسي مع الهنداوي، وقال خلال مقابلة أجراها الكاتب معه “إن عدم ذكر مفردة القومية في التعداد السكاني هو أمر مقصود من أجل تغيير تركيبة المناطق السكانية، خصوصا في كركوك ونينوى، وكذلك يتاح (للأحزاب) لهم تسجيل المجنسين (الأجانب) لأن وجود القومية يفتضح المجنسين، لذلك غُيّبَ حقل القومية من التعداد وهو ما سيؤثر سلبا على البلد بسبب توطين الشعوب المستوردة الموالية لإيران.”

وأشار الحلبوسي إلى وجهة نظر وردت في عدة برامج تلفزيونية تزعم أن “الأحزاب المتحالفة مع إيران كانت قد عارضت وبشدة في سنوات سابقة إجراء التعداد السكاني في العراق، لكنها نجحت في التغلب على معارضيها بعد استقطاب الآلاف من الإيرانيين والباكستانيين والأفغان واللبنانيين ومنحهم الجنسية العراقية، مما أتاح للائتلاف الحاكم إدخال هؤلاء المجنسين ضمن العراقيين ليتم استخدامهم سياسيا وأمنيا لصالح هذه الاحزاب.”

ويرى الحلبوسي أن لا علاقة للتعداد السكاني بتحسين وضع المواطن ولا من أجل توزيع عادل للثروة، بل هو هدفه سياسي أمني واقتصادي من أجل زيادة مقاعد الأحزاب الموالية لإيران بداخل البرلمان، وأمني بأنه سيتم إدخال المجنسين ضمن الأجهزة الأمنية، واقتصاديا هو من أجل استيلاء الأحزاب على أموال البلاد، من خلال إعادة توزيع نسب الموازنة بين المحافظات العراقية مما يتيح لهم نهب هذه الأموال وتمويل المجنسين بها.

وفيما إذا فعلا تم اعتماد نتائج التعداد واستخدمت سياسيا في الانتخابات، فيُتوقع أن يتغير عدد مقاعد البرلمان من 329 إلى 450، الأمر الذي يزيد القلق من حدوث صراعات مرتقبة قبيل الانتخابات البرلمانية القادمة، وخلافات على تقاسم المناصب بين القوى السياسية.

ويتوقع المراقبون أن يلعب التعداد السكاني دورا مهما في تشكيل الانتخابات المقبلة في البلاد، حيث يمكن أن يسهم في تمكين بعض الأحزاب من الحصول على مقاعد برلمانية إضافية نتيجة للتحولات الديموغرافية.

ووفقا لدستور العراق لعام 2005 يُخصص مقعد برلماني واحد لكل 100 ألف مواطن، مما يعني أن إضافة مقاعد برلمانية جديدة قد تؤدي إلى تغييرات كبيرة في التركيبة السياسية الحالية للبرلمان.

ولم يشمل التعداد السكاني الحالي العراقيين في خارج العراق، وليست هناك أي خطة معلنة حول ذلك، ما أثار استياء المواطنين في المهجر من عدم شمولهم بالتعداد وعدم استطاعة الحكومة التنسيق لإجراء التعداد من خلال السفارات العراقية أو عبر روابط إلكترونية أو آلية آخرى.

فيما قال بعض العراقيين المغتربين ممن تحدث إليهم الكاتب إنهم أوعزوا إلى أسرهم في العراق بتسجيلهم كغائبين مؤقتا، مدعين أنهم في سفرة قصيرة خارج البلاد لضمان إدراجهم في التعداد السكاني.

وأكد الحلبوسي “إن حرمان الملايين من العراقيين المهجرين في الخارج من التعداد هو ظلم وإجحاف بحقهم، مما يعني أن الحكومة العراقية التي تهيمن عليها الفصائل الموالية لإيران، تستغل سيطرتها لإحداث تغيير في التركيبة الديموغرافية في العراق لخدمة مصالحها الخاصة.”

وفي ما يتعلق بإمكانية إجراء تعداد للعراقيين في خارج البلاد، صرح الهنداوي “هناك فكرة بأن يتم إجراء تعداد آخر للعراقيين في الخارج بقدر المستطاع من خلال الاستفادة من الأجهزة اللوحية المتوفرة لدينا الآن من خلال توزيعها على السفارات العراقية بمختلف دول العالم وهذه السفارات تتواصل مع عراقي المهجر لإجراء التعداد لهم.”

ويواجه تعداد العراقيين المقيمين في الخارج العديد من التحديات، أبرزها قلة عدد السفارات العراقية في مختلف دول العالم وبعد المسافة بينها وبين تجمعات العراقيين. هذه العوامل مجتمعة تجعل من الصعب على العراقيين الوصول إلى السفارات لإجراءات التعداد، مما يستدعي البحث عن حلول بديلة.

حرمان من التسجيل

خح

اشتكى العديد من المواطنين من عدم قدوم موظفي التعداد إلى منازلهم خلال فترة التعداد السكاني، كما أنهم لم يتمكنوا من تأمين الاتصال بالخط المخصص لهذا الغرض، وقد أظهرت فيديوهات على مواقع التواصل قيام المواطنين بالاتصال لكن الرقم مغلق، فيما أعلنت هيئة الإحصاء، الأحد الرابع والعشرين من نوفمبر، بدء المرحلة الثالثة والأخيرة للتعداد السكاني، وأن الفرق الميدانية ستصل إلى جميع الأسر التي لم يصلها العدادون في المرحلة السابقة. ومع ذلك، أدت المشاكل التقنية المستمرة إلى تأخير تنفيذ المرحلة الأخيرة من التعداد، حيث يواجه الباحثون المسؤولون عن التعداد السكاني مشاكل تقنية في الأجهزة اللوحية الإلكترونية وصعوبة تحديث الأجهزة لبدء المرحلة الثالثة والأخيرة من التعداد، فيما طالبوا بالوقت نفسه، الحكومة بصرف مستحقاهم المالية المستحقة.

مع ذلك، هناك تساؤلات عن الآلية المتبعة في إجراء التعداد السكاني مقارنة بـطرق أخرى قد تكون أكثر فعالية للحصول على بيانات سكانية دقيقة. فقد كلفت عملية التعداد السكاني الدولة الملايين من الدولارات، في حين أن دولا أخرى تمكنت من اعتماد وسائل أكثر كفاءة من حيث التكلفة للحصول على هذه المعلومات. على سبيل المثال، كان بالإمكان أن يسهم استخدام أرقام الهوية الوطنية المرتبطة بنظام الهوية الموحد في العراق في تبسيط العملية، وهو النظام الذي اعتمدته دول أخرى لتجنب الإجراءات المرهقة مثل التعداد اليدوي والمسح من خلال طرق الأبواب. ومع ذلك، أدى عدم امتلاك شريحة كبيرة من المواطنين للبطاقة الوطنية إلى عرقلة تحقيق ذلك، حيث يتردد عدد كبير منهم عن مراجعة دوائر الدولة لإصدار البطاقة بسبب الروتين الممل والمتطلبات، ما يجبر البعض على دفع رشاوى مقابل إنجاز معاملاتهم.

6