التطوّرات في الجزائر: باريس تقف عند مفترق طرق

باريس – أصيبت الدبلوماسية الفرنسية بحالة شلل حيال الانتخابات الجزائرية من حيث عدم القدرة على اتخاذ مواقف واضحة في السجال الصاخب الجاري بين الحراك الشعبي والسلطة حول وجاهة إجراء هذه الانتخابات.
يبدو الموقف الفرنسي رماديا ساعيا إلى إمساك العصا من النصف داعيا إلى ترك الجزائريين يقررون مصيرهم. وتراقب باريس عن كثب تفاصيل ما يجري في الجزائر لما لها من مصالح مباشرة مع هذا البلد. وقد بدت محرجة ومكبلة منذ بداية هذا الحراك، وتضاعف عقدتها مع رفض المحتجين أي تدخل خارجي من أي نوع، خصوصا من فرنسا.
وسعت الدبلوماسية الفرنسية إلى التقليل من الكلام في شأن الأزمة الجزائرية محتفظة بخط حذر في مقاربة ألغام العلاقة الحساسة بين باريس والجزائر، سواء على مستوى النظام السياسي أو على المستوى الشعبي.
وكان وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لو دريان، قد أشار في السابق إلى أن بلاده تتابع عن كثب الاحتجاجات المناهضة للحكومة في الجزائر، معتبرا أن الأمر يرجع للجزائريين في تحديد مستقبلهم.
وأضاف لو دريان أمام الجمعية الوطنية الفرنسية أن “علينا أن ندع العملية الانتخابية تتقدم، وفرنسا تتابع الأمر باهتمام، نظرا للروابط التاريخية بيننا”، لافتا إلى أن “الجزائر بلد ذو سيادة ومن حق الشعب الجزائري وحده اختيار قادته ومستقبله. الأمر يرجع للجزائريين في تحديد طموحاتهم، و يلزم أن تتسم العملية بالشفافية والحرية”.
ويعود الارتباك الفرنسي إلى تجارب تاريخية دراماتيكية في علاقة باريس والجزائر، لكن الأمر يعود أيضا إلى استخدام العامل الفرنسي من قبل النظام في الجزائر والمحتجين على السواء بحيث أن الموقف يبقى ملتبسا مشبوها من قبل الطرفين.
ويتهم الحراك الشعبي فرنسا بأنها تحمي النظام السياسي في الجزائر وتتحكم بقراراته، وأنه لم يكن للسلطة في الجزائر أن تتعنت وتعاند مزاج الشارع، الذي لم يهدأ ضجيجه منذ فبراير الماضي، لولا الرعاية والحماية اللتين توفرهما باريس لشركائها في السلطة في الجزائر.
بالمقابل يلجأ رجال السلطة، وبعضهم مرشح في الانتخابات الرئاسية، إلى استخدام خطاب شعبوي يرفض “تدخل” فرنسا في شؤون الجزائر مستلهما حرب تحرير البلاد من المستعمر الجزائري. وكان المرشح للانتخابات الرئاسية في الجزائر، عبدالمجيد تبون (74 سنة) قد انتقد الشهر الماضي فرنسا وقناة فرانس 24 بالتدخل في الشؤون السياسية للجزائر.
وقال تبون “هناك قناة تلفزيونية فرنسية عمومية تنحصر الجزائر بالنسبة لها فقط بالبريد المركزي، وساحة أودان حيث تنظم مظاهرات كل جمعة منذ بدء الحراك الشعبي”، مضيفا “وزيرهم للخارجية (في إشارة إلى جان إيف لودريان) يقول نفس الشيء أيضا. لماذا يتدخلون في أمور لا تعنيهم… أنا أرفض أن تقدم لي فرانس 24 نصائح. نحن جزائريون وندرك جيدا ما يناسب الجزائر وما لا يناسبها”.
واضطرت القناة الفرنسية للرد على اتهامات تبون، فأكد مارك سيقلي، مدير قناة فرانس 24 الناطقة بأربع لغات (العربية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية)، أن فرانس 24 “قناة للأخبار الدولية، مستقلة، تراعي دائما في عملها الحياد والموضوعية”.
ويرى مراقبون أن المجتمع الدولي، لاسيما فرنسا، لم يمارس ضغوطا على الحكم في الجزائر لإيجاد صيغ تتواءم مع مطالب الحراك المندلع منذ فبراير الماضي، وأنه لم يكن للسلطة أن تذهب قدما في إجراء انتخابات يرفضها الشارع لو لم تلاحظ أنها لا تتعرض لضغوط حقيقية من العواصم الكبرى كتلك التي تعرض لها النظام السوداني، والتي أدت إلى قيام مرحلة انتقالية من ثلاث سنوات قبل إجراء أي انتخابات في البلاد.
ولا يرفض الحراك الشعبي مبدأ الانتخابات لكنه يرى أنها ستكون انتخابات مزيفة كأي انتخابات سابقة طالما أن من يشرف على إجرائها هي أدوات الدولة نفسها التي عملت لصالح منظومة الرئيس المستقبل عبدالعزيز بوتفليقة. ويطالب الحراك بآليات انتقالية يجري التوافق عليها بالحوار تعمل على “تطهير” الدولة الجزائرية وإعدادها بشكل جيد لإجراء انتخابات نزيهة تمثل الجزائريين.
وتقول لويزا دريس آيت حمدوش، وهي أستاذة العلوم السياسية في جامعة الجزائر العاصمة الثالثة إن “فرنسا في مأزق مستحيل”. فالسلطة تستخدمها ككبش فداء يلعب على العصبية الوطنية، فيما تعتبرها حركة الاحتجاج الداعم الرئيسي للنظام.
ويلفت مراقبون فرنسيون إلى أن الشأن الجزائري هو شأن فرنسي بامتياز مرتبط بالأمن الاستراتيجي للبلاد. ويقول هؤلاء إن الدبلوماسية المشلولة لباريس تعتبر مسألة إشكالية تمثل عجزا عن مقاربة ملفات عديدة تتعلق بمسار الجزائر ومصيرها.
ويضيف هؤلاء أن لفرنسا علاقات اقتصادية معروفة ومباشرة، لكن باريس مهتمة بمراقبة تداعيات الأزمة الجزائرية على الجالية الجزائرية الكبرى في فرنسا، كما تأثيرها على البلدان المجاورة للجزائر. وتراقب باريس في هذا الصدد راهن الديمقراطية الفتية في تونس، كما الوضع الأمني في منطقة الساحل الأفريقي حيث لفرنسا وجود عسكري نشط منذ تدخلها العسكري ضد الجماعات الإسلامية في إقليم أزواد في مالي عام 2013.
ولا يخفي المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا اهتمام فرنسا بما يجري في الجزائر لكنه يسلط المجهر على حقيقة أن “فرنسا تخشى زعزعة استقرار حدود الجزائر، خاصة في الجنوب”.
لكن بعض المراجع السياسية الفرنسية تتخوف مما يمكن أن يحدثه تفاقم الأزمة الجزائرية من انفجار في أعداد المهاجرين الجزائريين إلى فرنسا. ويقول بعضهم إن فلتان الأمور في الجزائر قد يعرض فرنسا لغزو جماعي لسفن تحمل آلافا من اللاجئين إلى شواطئ الجنوب الفرنسي، وهو أمر لا يمكن لفرنسا تحمله، كما من شأنه إحداث قلاقل سياسية واجتماعية واقتصادية تهدد استقرار فرنسا نفسها.
ويقيم في فرنسا أكثر من 4 ملايين شخص من أصل جزائري، وسيكون لأي اضطراب في البلد الواقع في شمال أفريقيا تداعيات في فرنسا، لكون الجزائر استقلت عن فرنسا عام 1962 بعد حرب استمرت 8 أعوام للتخلص من احتلال دام 132 عاما. وحول ذلك قال لو دريان “إن الاستقرار والأمن والتنمية في الجزائر أمور ضرورية للغاية”، داعيا المحتجين إلى “الحفاظ على سلمية المظاهرات”.
ومع ذلك لا يرى الفرنسيون أن ظروف الجزائر هذه الأيام تقارن بالوضع الذي مرت به في تسعينات القرن الماضي في ما يطلق عليه في الجزائر بـ”العشرية السوداء”.
وترى باريس أن الوضع مضبوط وأن الحراك ما زال تحت السيطرة يأخذ أشكالا عادية سبق لدول كثيرة مثل فنزويلا وبوليفيا وهونغ كونغ والسودان أن مرت بها. وتؤكد المراجع الدبلوماسية الفرنسية أن باريس ستبقى محتفظة بدبلوماسية متحفظة حذرة تواكب التطورات في الجزائر متجنبة أي موقف قد يفهم منه التأثر على اتجاهات الجدل الحالي في الجزائر.