التضخم.. التحدي الذي لم يُحسَب له حساب في تونس

الاقتصاد الاجتماعي هو العامل الوحيد المؤثر في عملية الانتقال الجارية.
الاثنين 2022/09/12
الرئيس التونسي ترك معظم القضايا الاقتصادية ملقى على عاتق رئيسة الوزراء نجلاء بودن، في خضم عجز حاد في الميزانية

معركة تلوح في الأفق سيكون على التونسيين خوضها، بمن فيهم العديد ممن رحبوا بتحرّك الرئيس قيس سعيد في يوليو 2021 لتعليق البرلمان وإقالة الحكومة والحكم منذ ذلك الحين بمرسوم، ليشتكوا علنا اليوم من ارتفاع الأسعار وعجزهم المتزايد عن تلبية الاحتياجات الأساسية مع اتساع الفقر وتقلص الطبقة الوسطى.

تونس - ارتفاع الأسعار وتأثير تدهور القدرة الشرائية على المواطنين، صدمة قد يجد سعيد نفسه بمواجهتها قريبا دون أن يستعد لها استعدادا كافيا، وهو الذي تأكد من تبني الناخبين في يوليو للدستور الجديد الذي صاغه بنفسه إلى حد كبير، تمهيدا للطريق لتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة في ديسمبر المقبل.

وترك الرئيس التونسي معظم القضايا الاقتصادية على عاتق رئيسة الوزراء نجلاء بودن، في خضم عجز حاد في الميزانية ومفاوضات صعبة مع صندوق النقد الدولي لتأمين قرض بقيمة 4 مليارات دولار.

معظم مساهماته في النقاش العام  اقتصرت على إدانة المضاربة والاحتكار والفساد المستشري في قطاع الأعمال. وقد أصدر مرسوما بالعفو عن رجال الأعمال المتهمين بالفساد، والذين يوافقون على الاستثمار في المناطق الفقيرة من البلاد. وألقى بعض اللوم على القوى الأجنبية في ما يتعلق بموارد البلاد المحدودة، حيث فشلت في مساعدة تونس على استرداد الأموال والأصول المهربة إلى الخارج.

من السياسة إلى المعيشة

ربما لم يكن سعيد يتوقع ارتفاع الاقتصاد نحو قمة الأجندة الوطنية. لكن الإحصاءات الرسمية التي نُشرت هذا الأسبوع حوّلت الأضواء من الخطاب السياسي إلى الأسعار وتدهور مستوى معيشة السكان.

وقال المعهد الوطني للإحصاء الاثنين الماضي إن معدل التضخم السنوي في تونس ارتفع إلى 8.6 في المئة في أغسطس من 8.2 في المئة في يوليو.

الاقتصادي التونسي البارز راضي المؤدب، يقول إن معدل التضخم الجديد كان الأعلى منذ أبريل 1986، وكان ذلك خلال الأزمة الاقتصادية التي صبغت سنوات أواخر عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.

أما رضا كشريد الناشط السياسي والوزير السابق، فقال إن التضخم الذي يعاني منه المستهلكون هو في الحقيقة أعلى من المؤشر الرسمي، وأضاف “وكما يشعر المستهلكون، فإن معدل التضخم أعلى من 20 في المئة”.

لكن التضخم يرتفع بسرعة حتى بالمعدلات الرسمية. حيث كان في حدود 4.8 في المئة في وقت سابق من هذا العام.

واعتبر كشريد أن “هذا يفسر سبب تدهور القوة الشرائية وسبب شعور الناس أنهم لا يستطيعون تحمل أسعار السوق”.

ويوضح الخبراء أن زيادة الأسعار تضرّ أكثر لأنها لا تؤثر على جميع المنتجات بنفس الطريقة؛ فقد ارتفعت الأسعار التي تسيطر عليها الدولة، والتي تنطبق على أقل من ثلث السلع في السوق، بنسبة تقل عن 1 في المئة بينما شهدت المنتجات الأخرى ارتفاعا في أسعارها بأكثر من 14 في المئة، وفقا للبيانات المتاحة.

كما يبلغ معدل التضخم للمنتجات الغذائية غير الخاضعة لسيطرة الدولة حوالي 12 في المئة وأكثر من 10 في المئة للنفقات المتعلقة بالتعليم. ومن جهته يرى المؤدب أن ارتفاع أسعار هذه الاحتياجات الأساسية يؤثر على القدرة الشرائية مباشرة.

وأثيرت أسئلة حول الدور الذي يمكن أن يلعبه البنك المركزي المستقل سياسيا، فليس لديه الكثير من الأدوات الموضوعة تحت تصرفه، بالإضافة إلى عدم قدرته على تنظيم شروط الائتمان من خلال تحديد الأسعار المصرفية.

وقد رفعت الفائدة الرئيسية بمقدار 75 نقطة أساس إلى 7 في المئة في مايو لاحتواء التضخم. لكن هذه الخطوة لم تؤت ثمارها بعد.

وحسب المحلل المالي عزالدين سعيدان، فلا يزال للبنك المركزي دور يلعبه من خلال “الإدارة الواقعية” لاحتياطيات العملات الأجنبية، مع الأخذ بعين الاعتبار حقائق السوق الجديدة في وضع السياسات النقدية، لكن معظم الخبراء يرون أن القضية تتجاوز البنك المركزي.

ويشدد سعيدان على أن الأزمة الحالية هي نتيجة للسياسات السيئة والقرارات غير السليمة التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة منذ العام 2011. حيث لم يحمِ الاستقلال الذي منحه القانون للبنك المركزي البلاد من الديون المفرطة والتضخم والتباطؤ الاقتصادي وإفلاس الآلاف من المؤسسات وفقدان عشرات الآلاف من الوظائف والانخفاض المقلق في قيمة العملة المحلية والعجز الكبير.

اقتصاد عالمي غير مستقر

منتقدو الرئيس يقولون إنه لا يرى الأعمال كمحرك للنمو ولكن كمصدر للفساد والظلم الاجتماعي
منتقدو الرئيس يقولون إنه لا يرى الأعمال كمحرك للنمو ولكن كمصدر للفساد والظلم الاجتماعي

الغزو الروسي لأوكرانيا ووباء كوفيد – 19 خلّفا تداعيات على الوضع الاقتصادي غير المستقر. لكن تأثير الحرب في أوكرانيا كان محسوسا على خزائن الدولة أكثر منه على قدرة المواطنين الشرائية منذ أن واصلت الحكومة دعم أسعار المواد الرئيسية مثل البنزين والقمح.

ويرفض كشريد الحجة القائلة بأن ارتفاع التضخم المحلي في البلاد أمر “مقبول”، نظرا إلى اتجاهات التضخم العالمية. حيث تواجه أوروبا ضغوطا تضخمية ولكنها تواصل رؤية اتجاهات نمو تقلل من تأثير التضخم على الدولة والجمهور.

ومن أسباب ضعف الاقتصاد التونسي عدم قدرة الحكومات المتعاقبة على دفع عجلة النمو الاقتصادي بسبب مزيج من الافتقار إلى الرؤية وعدم الكفاءة والفساد والروتين والتوقف عن العمل الذي لا نهاية له.

نسبة نمو شحيحة

● 2011 - 2021: 1.8 في المئة

● 2022: 2.5 في المئة

وهي نسبة لا تكفي لخلق فرص عمل في بلد يسجل 16 في المئة من العاطلين عن العمل

وقد فشلت الطبقة السياسية التي حكمت منذ العام 2011 في إدخال الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي تشتد حاجة البلاد إليها. وسعت بدلا من ذلك للحصول على القروض الأجنبية مع الإنفاق الحكومي الهائل والتوظيف الكبير للخدمة العامة. ومن المفارقات أن بعض الأحزاب السياسية التي كانت في السلطة خلال العقد الماضي تثير الآن مخاوف اقتصادية في انتقادها لسعيد.

ماذا بيد الرئيس

بغض النظر عن السياسة، لم تعد البلاد إلى العمل بعد، في حين أن المستثمرين في الداخل والخارج لم يطمئنوا بعد إلى أن هناك مناخا مناسبا للأعمال في تونس.

ويمكن لسعيد المساعدة في إبرام صفقة بين تونس وصندوق النقد الدولي، لكنه قد يتردّد في ذلك لأنه قد يضر بشعبيته في الداخل بسبب تأثير إجراءات التقشف المحتمل على الأسعار. ويقول حمزة المؤدب، وهو باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير- كارنيغي في تصريحات صحفية إنه “يمكن لسعيد الحصول على صفقة صندوق النقد الدولي بعد اعتماد الدستور الجديد. لكن السؤال الكبير هو ماذا بعد ذلك؟ ستكون البلاد شديدة الاستقطاب وستظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية قائمة”.

كما قد يكون سعيد حذرا من تأثير مثل هذه الصفقة على الحالة المزاجية داخل النقابات العمالية القوية التي سبق لها أن هددت عدة مرات بالإضراب العام.

ويقول الخبراء إن الأسعار التي تسيطر عليها الدولة، والتي لا يمكن تحملها على نحو متزايد، من المرجح أن ترتفع قبل فترة طويلة، لاسيما في سياق اتفاقية القرض التي تلوح في الأفق مع صندوق النقد الدولي. ويمكن أن يثير مثل هذا الاتجاه التضخمي توترات جديدة بين الحكومة والنقابات ويخلق صعوبات في تنفيذ التزامات الإصلاح في صفقة صندوق النقد الدولي.

المشكلة الأخرى تكمن في موقف سعيد تجاه الأعمال، إذ يقول منتقدو الرئيس إنه لا يرى الأعمال كمحرك للنمو ولكن كمصدر للفساد والظلم الاجتماعي. ويناسب هذا النوع من السرد الشعبوي الجمهور الساخط. لكن لا يمكن إلا أن يثني رجال الأعمال والمستثمرين المحتملين عن لعب دورهم. ويقدر النمو الاقتصادي خلال العقد الماضي بما لا يزيد عن 1.8 في المئة، ولن يتجاوز هذا العام 2.5 في المئة، وهو ما لا يكفي لخلق فرص عمل في بلد يعدّ أكثر من 16 في المئة فيه من العاطلين عن العمل.

وأشار المؤدب في منشور على حسابه على موقع فيسبوك الثلاثاء الماضي إلى أن جزءا كبيرا من التضخم يعود إلى ضعف الإنتاج في تونس. مضيفا قوله “لن نتمكن من عكس الضغوط التضخمية دون زيادة عرض السوق والعودة إلى الإنتاج في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمات”.

وسيشكل التضخم تهديدا وجوديا على استقرار البلاد، وفقاً للمؤدب الذي بيّن أن تونس أصبحت عند منعطف تاريخي، بينما تبحر سفينة الدولة غير المستقرة وسط إعصار. ويجب على جميع أصحاب المصلحة التعقّل والقبول بالتنازلات التاريخية، فهي الآن ضرورية أكثر من أي وقت مضى، إذ أن الأسعار كانت على مر التاريخ هي التي أحدثت أكبر الاضطرابات في الدولة الصغيرة الواقعة في شمال أفريقيا، ولم يدرك الفاعلون السياسيون في هذا البلد شديد الاستقطاب بعدُ دور الاقتصاد الاجتماعي باعتباره العامل الوحيد الأكثر أهمية في عملية الانتقال الجارية في تونس.

اقرأ أيضا: أرقام صادمة

6