التسوية السياسية ضرورة وطنية قبل الانتخابات في ليبيا

الاجتماعات التي تجري بين الليبيين لا تأثير لها ما لم تحقق التسوية السياسية الواضحة التي توفر أرضية صلبة للانتخابات، مع السعي لأن تكون تلك التسوية جامعة وألا تستثني أي جهة تحت أي مبرر.
شرعت جهات محلية وإقليمية ودولية في الحديث بكثافة حول الخطوات الواجب اتخاذها لإجراء الانتخابات في ليبيا، وعُقد اجتماعان في القاهرة أخيرا بحضور أربعة من الأطراف الرئيسية في المعادلة الليبية كانت عملية الانتخابات محورا رئيسيا فيهما بالتوازي مع التسوية السياسية، ودخل على الخط مبعوث الأمم المتحدة، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، وكل من استطاع أن يدلي بدلوه في الداخل والخارج وكأن الانتخابات باتت قاب قوسين أو أدنى من إتمامها.
وترى دوائر كثيرة أن إجراء الانتخابات حدث مهم في حد ذاته، وهذا صحيح، لأن هذه الخطوة توحي بالاتجاه نحو الاستقرار، وتحاول جهات عديدة أبدت الاهتمام بها تصوير الأمر على أنه نهاية المطاف وغاية المراد، وأن تجاوز العقدة الكامنة في التوافق حول القاعدة الدستورية كفيل بتجاوز مطب عدم إجراء الانتخابات سابقا.
هذا هو الجانب الظاهر في المسألة، والذي يعكف عليه أعضاء المسار الدستوري لحل إشكاليتي حق العسكريين ومزدوجي الجنسية في الترشح أم لا، بينما الجانب الغاطس هو تحقيق المصالحة وتثبيت عناصر التسوية، والتي يجتهد كل طرف في ابداء رأيه في آلياتها عبر طرح مبادرات وعقد لقاءات وإطلاق تصريحات جوفاء على سبيل المزايدة السياسية، في حين أن عددا كبيرا لم يصعد بعد إلى قطار التسوية الحقيقية.
إذا كانت الانتخابات تتعلق بقاعدة دستورية وإجراءات لوجستية فغياب التسوية لن يؤدي إلى تطبيق نتائجها أصلا، وبالتالي لا حاجة إلى قواعد أو لوجستيات، فعدم وجود الرأس لن يمنح الجسد الحياة أصلا. بكلام آخر، من يروّجون ويبحثون ويجتهدون في ملف الانتخابات وضعوا العربة أمام الحصان، ما يعني عدم القدرة على الحركة إلى الأمام.
ما تحقق من تطور إيجابي في القاهرة بشأن الانتخابات أخيرا من خلال لقاء رئيسي مجلس النواب عقيلة صالح والمجلس الأعلى للدولة خالد المشري، ثم بشأن ملفات كثيرة في لقاء قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، لن يؤدي إلى ثمار سياسية تفتح الطريق إلى مصالحة توفر مظلة للاستقرار، لأن هناك جهات فاعلة غابت عن اجتماعي القاهرة.
تجاهل رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة بسبب انتهاء ولاية حكومته لم يعد مبررا كافيا لتغييبه، فلا يزال يحتفظ بأوراق يستطيع بها تفويت الفرصة على الانتخابات قبل الوصول إليها، فالأمم المتحدة لم تنزع اعترافها به، والمجتمع الدولي يتعامل معه، ولديه من الميليشيات المسلحة والمرتزقة ما يمكنه من القيام بدور مؤثر في مجالات مختلفة، سياسية واقتصادية وأمنية، بالتالي من المهم حل إشكالية الدبيبة، فوحدها كفيلة بتحطيم كل التحركات التي تقوم بها أي جهات داخلية أو خارجية نبيلة.
ليست المشكلة في الدبيبة نفسه، لكن في ما يمثله الرجل من رمزية متعددة الوجوه سيكون لها تأثير مباشر على العملية الانتخابية، فهناك إشارات بعث بها عقيلة والمشري بتنصيب سلطة محايدة للإشراف على الانتخابات، أي رحيل الدبيبة وحكومته، وهو ما يطرح سؤال من الذي يستطيع تشكيل هذه السلطة إذا كان المجتمع الدولي لا يميل إلى ذلك، بل لا يمانع من إجراء الانتخابات في ظل ولاية حكومته؟ والأهم كيف تتم إزاحته بعد أن فشلت خطة تنصيب فتحي باشاغا رئيسا للحكومة؟
يؤدي التركيز على معيار التسوية السياسية إلى تخطي جزء معتبر من المشكلات على الأرض، شريطة أن تكون المخرجات مختلفة والاستفادة من الدروس المستفادة من الاجتماعات الأوروبية التي عقدت في كل من روما وباريس وبرلين 1 و2، وجنيف، والمدن العربية التي شهدت اجتماعات احتضنت الكثير من القيادات الليبية.
ناقشت هذه الاجتماعات أسس التسوية وخاضت في عمق تفاصيل القضايا التي تمنع الوصول إليها، لكنها أخفقت في الوصول إلى الحل الفعال القابل للتطبيق، لأنها لم تتمكن من تنفيذ التعهدات والالتزامات التي تمخضت عنها.
جرى الحديث عن منع تهريب الأسلحة، ونزع سلاح الميليشيات وخروج المرتزقة ولا تزال قواتهما تمارس أنشطتها غير المشروعة في الأراضي الليبية، وتم التطرق بكثافة إلى توحيد المؤسسات الليبية العسكرية والأمنية والاقتصادية والانقسام يضرب كل منها بعنف، وأوصى مجلس الأمن بوقف التدخلات الخارجية بكافة أنواعها وهناك دول لها وجود عسكري بارز تعمل تحت سمع وبصر الأمم المتحدة.
وتم التباحث حول معوقات التسوية ووضعت مفاهيم لتجاوزها، غير أنه كلما تم الاقتراب من التنفيذ جاءت قوة أو أكثر لتحرض أذرعها بما حال دون التوصل إلى حل سياسي يكفل الحفاظ على وحدة وأمن واستقرار ليبيا، والكل يعلم الجهة أو الجهات المتورطة ويغض الطرف عن المحاسبة وكأن هناك اتفاقا ضمنيا لتبقى حالة الجمود على ما هي عليه، باعتبارها حالة مثلى لكثير من القوى العاجزة عن تحقيق أهدافها الإستراتيجية والرافضة لصعود قوى مناوئة لها ولا تحقق لها جُل مصالحها.
من الطبيعي أن تقود هذه الحسابات إلى حالة الفوران تارة والجمود والغموض تارة أخرى، كي تستمر ليبيا بعيدة عن التسوية المستقرة، وكل طرف يقوم بتحريك أدواته ومعداته وأذرعه في الاتجاه الذي يريده ويحقق مصالحه، والتي تكمن الآن في الدوران حول التسوية من دون الوصول إليها.
وجد هؤلاء في مسايرة الحديث المتواتر حول الانتخابات إبراء للذمة، حيث يعلمون صعوبتها، وإن أجريت من المستحيل تطبيق نتائجها، وإن طبقت سوف تكون قابلة للانيهار مع استمرار المخاوف التي تجعل أي طرف يملك سلاحا أو نفوذا تخريبها.
الانتخابات لم تعد هدفا إلا إذا توافرت ضمانات تعكس التوازنات، وهو ما لم يتحقق إلا مع التوصل إلى تسوية مُلزمة للجميع
ابتعدوا وكل من يدورون في فلكهم عن الدخول في عمق المقومات التي توفر تسوية سياسية متماسكة، وشجعوا على الخوض في هوامش عملية الانتخابات للاستفادة من الضباب الذي يلاحقها، كما أن هناك قوى دولية فاعلة تفضل الآن تأجيل حسم ملف ليبيا لأن أولوياتها على الساحة الدولية تمنعها من تشجيع التسوية حاليا خشية أن تفضي إلى نتيجة تلعب فيها توازنات القوى على الأرض لصالح الخصوم.
قد يدفع التوصيف القاتم السابق بعض القوى الوطنية لوضع حد له والتمرد على الجهات التي تتلاعب ببلدهم والقيادات المحلية المنساقة خلفها وتطالب بإصرار بضرورة تحقيق التسوية أولا، فالانجرار إلى خيار الانتخابات في أجواء غامضة يفضي تلقائيا إلى إعادة إنتاج المشهد الحالي، ربما بأشخاص مختلفين، لكن الحصيلة واحدة.
لم تعد الانتخابات هدفا في حد ذاته إلا إذا توافرت ضمانات كافية لتعكس نتيجتها توازنات القوى على الأرض، وهو ما لم يتحقق إلا مع التوصل إلى تسوية سياسية مُلزمة لجميع الأطراف، بلا تحايل أو ألاعيب أو رشاوى تترتب عنها هياكل مشوهة تأبى أن تخرج ليبيا من الحلقة الجهنمية التي أدخلتها بعض القوى الدولية فيها.