التسامح مدينة التعايش الحميد والعلمانية بابها الوحيد

يجب الاعتراف بأن لا دولة عربية تقدم النموذج الحضاري لاحترام الأقليات غير المسلمة، وإن كان ذلك بمظاهر متفاوتة، وانطلاقا من هذا المعطى يصعب الحديث عن العلمانية قبل وجوب فصل الدين عن السلطة التي تحاول أن تكتسب مشروعيتها في المجتمع عبر مغازلة الإسلاميين ثم تقع في شراك أفعالهم، ومن هنا صار الحسم واجبا نحو إرساء دولة مدنية يتساوى فيها الجميع، ولا يمكن أن يحقق ذلك إلا النظام العلماني وحده.
الخميس 2017/09/21
الأغلبية الإسلامية تضيق الخناق على أتباع الأحمدية في الجزائر

هل يبقى الأمل قائما في إقامة دولة عصرية على أرض العرب؟ وهل يوجد مجتمع عربي إسلامي كما اعتدنا أن نقرأ في الإعلام ونسمع في الخطب السياسية والدينية؟ وهل توجد ثقافة إسلامية أصلا؟

الواقع هو أن هناك مجتمعات عربية لكل منها علاقة مختلفة بالحداثة، وهي التي تكوّن هويتها الحالية. لا ينبغي وضع تونس واليمن مثلا في سلة واحدة، وإن جمعت بينهما الديانة الإسلامية.

السؤال المطروح قبل كل شيء حينما نتطرق إلى ضرورة الفصل بين الدين والدولة في العالم العربي هو: هل هناك دولة بالمعنى العصري حتى نطالب بفصلها عن الدين؟

ما ينبغي أن يفصل اليوم هو الدين عن السلطة، تلك السلطة التي تشتري الشرعية بالشريعة، تقايض أسلمة المجتمع بالمحافظة على امتيازاتها بمباركة الكثير من الجهات المستفيدة من دولة الريع.

لا فائدة من الاسترسال النظري في موضوع التنوير إذ أنّ الواقع يبين لنا كل يوم أن “الدولة العربية” هي التي تحارب الحداثة بوعي أو دون وعي وبذلك تطيل من عمر اللاعقلانية، فهي تموّل وتشجّع الفكر اللاهوتي وفي الآن ذاته تحارب الإفرازات العنيفة التي هي نتيجة طبيعية لما تغرسه في وعي الناس ولا وعيهم، وذلك عن طريق مدارسها وإعلامها ومساجدها وكتابات مثقفيها الأصوليين.

تكفي إطلالة سريعة على الدساتير في هذه البلدان ليعرف المرء أنها كلها تعتمد الشريعة الإسلامية كأساس للتشريع، وبالتالي لا تعترف بمواطنة المسيحي ولا اليهودي، ولا اللاّديني.

تقصي هذه التفرقة غير المسلمين، وتجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، وذلك يعرضهم لمصاعب كثيرة تفتح الباب في النهاية واسعا أمام احتقارهم أولا، والاعتداء عليهم ثانيا.

وتغتنم الأحزاب السياسية المعتمدة على أساس ديني فرصة ارتباك الدولة وطبيعتها نصف الدينية لتقدم مشروعا بغية أسلمة النصف الآخر أو ما تبقى من مدنية، فتمزج بين ما هو دعوي وما هو سياسي، وتعلن جهارا نهارا أنها تعمل على إقامة دولة دينية كاملة تحكمها الشريعة وحدها، تلك الشريعة التي تؤسس للتمييز والتحرش الديني بطريقة مضمرة لدى الإخوان وصريحة لدى داعش وغيرهما من التنظيمات الإسلامية في كل البلدان العربية التي تخطط للتطهير الديني بغية التخلص من كل ما هو مختلف كالإيزيديين والأحمديين والإباضيين والشيعة بالنسبة للسنة والسنة بالنسبة للشيعة.

حتى البلدان التي اكتوت بنار الإرهاب كالجزائر، لم تعتبر بعد وما زلنا نرى الداعشية تَطُلّ برأسها من حين لآخر لتؤلّب ضدّ مواطنين جزائريين حداثيين يطالبون بفصل الدين عن السياسة، أو ينتمون إلى طائفة كالأحمدية أو دين آخر كالمسيحية أو مثقفين مستقلّين أو فنّانين لا يريدون أن يكون الدين بوصلة لهم.

المسيحي لا يمكن له أن يعيش في طمأنينة بين أناس يستشهدون على الفضائيات بكتاب \'النفائس في هدم الكنائس\'

لقد كفر أحد الدعاة المتطرفين الذين نصبوا أنفسهم وكلاء على الدين الإسلامي في الجزائر الكاتب الشاب كمال داود، وطالب الدولة بإقامة الحد عليه ناسيا أن الجزائر لم تصبح دولة دينية بالكامل. ومع ذلك لم تحرّك السلطات ساكنا أمام هذا الخرق المشين للقوانين والدعوة الصريحة للكراهية والقتل.

وليس من الغريب أن يحارب هؤلاء الإبداع عموما والرواية على وجه أخص لأنها بطبيعتها ديمقراطية متعددة الأصوات، يعبّر فيها كلّ اتجاه عن ذاته وهم يريدون خنق كل صوت لا يجاري أوهامهم.

يندد الكثير من المثقفين بالاعتداءات التي يذهب ضحيتها عدد من المواطنين العراقيين والسوريين من ديانات أخرى على يد داعش وغيره، وإن كان واجبا تثمين كل مبادرة تندّد بالعنف ضد البشر، إلا أن التنديد غير كاف ما دامت المجتمعات العربية لا تعترف بالتنوع الديني والفلسفي.

ألا يعتبر الإسلام الشائع المسيحيين واليهود أهل ذمة؟ هل يمكن الحديث عن حقوق الإنسان وحرية الضمير دون إبعاد الشريعة تماما من مجال التشريع، وتجريم التكفير وعدم تدريس الحقد؟

لا يستطيع أحد أن ينكر أن الساحة الإعلامية تعج بالذين ينافقون الحكام ويجاملون القراء والمشاهدين والغوغاء ويخافون على مراكزهم وامتيازاتهم، وهو أمر يستحق لوحده صفحات وصفحات إذ هو متعلق بمسألة ظهور النخب في البلدان العربية وارتباطها بمؤسسات حكومية أو مالية لانعدام المؤسسة العمومية المستقلة التي تضمن أسبقية الصالح العام.

لأسباب بسيكولوجية ثقافية معقدة وباثولوجية يهاب الكثير من الكتاب مناقشة الأطروحة الغالبة والجهر بعدم اقتناعهم بما يطرحه مفكرون رسميون لا مصداقية لهم سوى تقدمهم في السن، وتراهم يرددون شعارات توفق كاريكاتوريا بين التراث والحداثة، فإن كان الأمر كما يدعي هؤلاء فلماذا يجد المسلمون أنفسهم في صراع مرير مع قيم الحداثة داخل المجتمعات الأوروبية حيث يصبح الاختيار ضروريا وعمليا؟

كيف يسمح للإسلاميين بالعمل الدعوي الذي يهدف إلى أسلمة المسيحيين، وفي المقابل لا يسمح للمسيحيين حتى بإظهار إيمانهم بالتثليث

يدافع الكثيرون عن أطروحة التوفيق بين الإسلام والحداثة مؤمنين بإمكانية الوصول إلى تحديث المجتمع انطلاقا من التراث وهو ما سبقنا إليه رجال النهضة، ونعلم اليوم النتيجة التي أوصلنا إليها ذلك الحلم الذي بدأ بنصف عقل مع الأفغاني وانتهى فاقدا للعقل مع رشيد رضا الذي أفرز حسن البنا، وهكذا عادت النهضة إلى أصلها.

حينما يجد التوفيقيون الجدد أنفسهم أمام اختيار حاسم، حينما يستنفدون كل زادهم التراثي، سيعودون إلى أصلهم، وحينها يصبح الغلاة أغلبية، فيجعلون الحداثة عصفا مأكولا، ونحن نعاني من تدخل رجال الدين في حياتنا اليوم قبل أن تقوم الدولة الإسلامية كاملة، فكيف سيكون الأمر إذن بعد قيامها؟ كيف يسمح للإسلاميين بالعمل الدعوي الذي يهدف إلى أسلمة المسيحيين، وفي المقابل لا يسمح للمسيحيين حتى بإظهار إيمانهم بالتثليث وفي مناطق كثيرة لا تُقرع أجراس الكنائس خوفا من أن تشكل استفزازا للمسلمين؟

كيف يمكن أن يعيش مسيحي في طمأنينة بين أناس ما زالوا يستشهدون على القنوات الفضائية بكتاب "النفائس في هدم الكنائس".

لا يمكن الوصول إلى دولة حديثة قبل أن يتحول المسلمون الشموليون إلى أقلية. فهل تساهم كتابات التوفيقيين في وهم استجداء علمانية ما من التراث الديني وتحويل دعاة الدولة الدينية إلى أقلية؟ وما جدوى رفض الأصولية إذا لم تكن لنا الشجاعة على رفض الجهاز الأيديولوجي الذي ينتجها ويعطيها الشرعية؟ كيف نستغرب الاعتداءات التي يرتكبها داعش ضد الإنسان المختلف في وقت يفرض فيه تعليم القواعد الإسلامية على الجميع في المدارس بصرف النظر عما إذا كان التلاميذ مسلمين أم لا؟ كيف نَضمن الأمن الاجتماعي ولا تكاد تمرّ صلاة جمعة أو مناسبة دينية دون أن يسمع المصلون خطبا نارية مناوئة للمسيحيين واليهود وغير المؤمنين بل للعالم أجمع؟ ألا يتعلّم الناس معاداة العقائد الأخرى في مساجد الحكومات ومدارسها وإذاعاتها وفضائياتها؟

لقد حان الوقت لنعرف أن تجربة ما يقارب القرنين قد أثبتت أن محاولات التوفيق قد باءت بالفشل.

هل يمكن الوصول إلى مجتمع متسامح انطلاقا من التراث؟ الحل الأمثل هو بلا شك خيار الدولة العلمانية بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى: فصل الإسلام عن الدولة بشكل مطلق، اعتماد القانون الوضعي، احترام الحريات الشخصية، المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة.

13