التراجع الغربي يشجع روسيا على السير إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثبت من خلال إدارة الحرب في أوكرانيا وقبلها في سوريا أنه يخطط لوضع بلاده في قلب نظام عالمي جديد يقوم على تعدد الأقطاب بدلا من السيطرة الأحادية للولايات المتحدة. ومقابل ذلك لا يبدو أن الغرب يمتلك من الأوراق التي تساعده على وقف التقدم الروسي المتسارع نحو العالم الجديد.
موسكو - أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعة أن بلاده تتمتع بالقوة والمرونة في مواجهة العالم الغربي، وهو ما يتيح لها الاستمرار في مسعاها للدفع نحو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب على أنقاض النظام ذي القطب الواحد الذي تأسس ما بعد سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة.
ويقول مراقبون إن التدخل الروسي في أوكرانيا أثبت محدودية خيارات الغرب في مواجهة صعود روسيا لتستعيد دورها كلاعب رئيسي في عالم متعدد الأقطاب. وفي الوقت الذي تتقدّم فيه روسيا ميدانيا، وتفرض شروطها خاصة في موضوع الغاز، خفت صوت الغرب الذي كان يلوّح يوقف التقدم الروسي، وبدلا من أن تتحول الحرب إلى حرب أقطاب تم ترك أوكرانيا بمفردها تواجه حربا غير متكافئة، وتنكر الغرب لأبسط وعوده من بينها عضوية كييف في الاتحاد الأوروبي.
وتحدث بوتين أمام منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، الذي يُعقد هذا العام دون أيّ مشاركة غربية تقريبا، وتطرق مرارا إلى موضوع سيادة روسيا في نظام عالمي جديد.
وقال “نحن شعب قوي ويمكننا مواجهة أي تحد. سنحل أيّ مشكلة، مثلما فعل أسلافنا، وتاريخ بلادنا الممتد على مدى ألف عام يتحدث عن ذلك”.
وقوبل خطاب بوتين بالتصفيق عندما أعاد تأكيد عزمه على مواصلة “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا التي تسببت في وابل من العقوبات الاقتصادية الغربية.
وقال إن الهدف الرئيسي هو الدفاع عن “شعبنا في منطقة دونباس التي يتحدث معظم سكانها باللغة الروسية” في شرق أوكرانيا، وأن الجنود الروس يقاتلون أيضا للدفاع عن “حقوق روسيا في استمرار التنمية”.
وأضاف “في ظل تزايد المخاطر والتهديدات التي نواجهها، كان قرار روسيا القيام بعملية عسكرية خاصة قرارا اضطررنا إليه.. كان صعبا بالفعل، لكنه قرار اضطراري وضروري”.
ووبخ بوتين الروس الذين شعروا بالخجل من الحرب في أوكرانيا قائلا “تعلمون أن هناك من يخجلون ولا يربطون مصيرهم وحياتهم وحياة أطفالهم، ببلدنا”.
وتحدث عن استعادة الأراضي الروسية. وقال بوتين إن بطرس لم يغز المنطقة المحيطة بما يعرف الآن بسان بطرسبرغ، وهي مدينة يبلغ عدد سكانها أكثر من مليون نسمة، من السويديين، لكنه استعادها. وأضاف بوتين “يبدو أنه أيضا نصيبنا: استعادتها وتقويتها”، مشيرا إلى أوجه التشابه مع الحرب ضد أوكرانيا.
نظام عالمي جديد

خلال تدخله في سوريا قبل أقل من سبع سنوات قليلون من فهموا أن الرئيس الروسي وجد الفرصة مواتية لإعادة وضع بلاده على سكة النظام العالمي الجديد. وإذا كان الظاهر من ذلك التدخل نجدة الرئيس السوري بشار الأسد الذي كانت المعارضة المدعومة من الغرب في طريقها لأن تنهي حكمه، لكن الحقيقة الأبعد أن بوتين وجد فرصة لا تقدر بثمن من أجل العودة إلى الشرق الأوسط كلاعب رئيسي والتمركز قبالة البحر المتوسط وامتلاك قواعد بحرية وجوية في منطقة مستقبلية استراتيجية.
وليس بوتين وحده من يبشر بنظام عالمي جديد يكسر الهيمنة الأميركية، ففي خطاب فيديو مسجل مسبقا، أشاد الرئيس الصيني شي جين بينغ بالتعاون الصيني – الروسي، وسلط الأضواء على تأكيد بوتين على انتهاء حقبة الهيمنة الأميركية.
وقال بوتين إن الولايات المتحدة تعتبر نفسها “مبعوثة العناية الإلهية على الأرض”، مؤكدا أن روسيا تأخذ مكانها في نظام عالمي جديد ستحدد قواعده “دول قوية وذات سيادة”.
ووصف الحملة في أوكرانيا بأنها عمل تقوم به “دولة ذات سيادة لها الحق في الدفاع عن أمنها”، واتهم الغرب “بالسيطرة الفعلية عسكريا على الأراضي الأوكرانية”.
وقبل قليل من الموعد المحدد لبدء كلمة بوتين، قال الكرملين إن هجوما إلكترونيا أصاب الأنظمة الخاصة بالمنتدى بالشلل، مما أرغمه على تأخير موعد البدء لمدة ساعة.
ونفى بوتين الإشارات إلى أن روسيا مسؤولة عن ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية الأساسية. وقال إن روسيا مستعدة لضمان مرور سفن تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، لكن أوكرانيا لديها خمسة أو ستة طرق بديلة عبر روسيا البيضاء أو بولندا أو رومانيا.
وتستخدم أوكرانيا طرقا بطيئة ومرهقة وخطوط سكك حديدية وطرقا نهرية أكثر تعقيدا في محاولة للالتفاف حول إغلاق ميناء أوديسا الرئيسي بشكل خاص، حيث تخشى وقوع هجوم روسي.
التدخل الروسي في أوكرانيا أثبت محدودية خيارات الغرب في مواجهة صعود روسيا كلاعب رئيسي في عالم متعدد الأقطاب
لكن قدرة هذه الطرق تصل في أفضل الأحوال إلى ثلث الكمية التي تزيد عن ستة ملايين طن شهريا من الحبوب والبذور الزيتية التي كانت تُشحن من أوديسا في الماضي.
يعتقد المراقبون أن جهود كييف لبيع منتجاتها من الحبوب لن تستمر طويلا، خاصة مع اتجاه الحرب نحو التوسع وهيمنة روسيا على المزيد من الأراضي الأوكرانية، وبالتالي تحكمها في مصير قارات ودول لا بدائل لها عن قمح أوكرانيا وروسيا، مشيرين إلى أن هذه الورقة ستحوّل الدور الروسي عالميا إلى واقع قائم لن يقدر أحد على التشكيك فيه.
كما أن تقليص روسيا لإمدادات الغاز الطبيعي التي تضخها إلى كبار عملائها في أوروبا سيؤدي إلى زيادة الضغوط على الدول الأوروبية التي تشعر بقلق متزايد من نقص إمدادات الوقود في الوقت الذي اتهمت فيه المفوضية الأوروبية الحكومة الروسية بممارسة الابتزاز باستخدام إمدادات الغاز.
وذكرت وكالة بلومبرغ للأنباء الجمعة أن أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا ارتفعت بشدة خلال الأسبوع الحالي، في حين اضطرت بعض الدول إلى السحب من المخزونات التي تحتفظ بها لفصل الشتاء الذي يشهد ذروة استهلاك الطاقة في أوروبا.
وأضافت بلومبرغ أن شركة الغاز الطبيعي الروسية العملاقة “جازبروم” قلصت كميات الغاز التي تضخها إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهي الدول التي زار قادتها أوكرانيا الجمعة، في حين أوصت المفوضية الأوروبية بمنح أوكرانيا صفة مرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وقالت شركة يونيبر الألمانية للطاقة إن كمية الغاز التي حصلت عليها من روسيا تقل بنسبة 60 في الئمة عما طلبته، بعد أن قلصت موسكو الكميات التي تضخها عبر خط نورد ستريم أكبر خطوط نقل الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا. وتعتمد يونيبر على روسيا للحصول على أكثر من نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي من خلال عقود طويلة المدى، حيث يمتد بعض هذه العقود إلى العقد المقبل.
وأوقفت روسيا ضخ الغاز إلى بلغاريا وبولندا والدنمارك وهولندا، كما أن روسيا التي كانت تروج لنفسها باعتبارها شريكا يعتمد عليه بالنسبة إلى أوروبا حتى أثناء الحرب الباردة بدأت تقليص إمدادات الغاز حتى لدول استجابت لطلب بوتين سداد قيمة الغاز بالروبل الروسي.
كما خفضت روسيا كميات الغاز إلى ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا مما أدى إلى ارتفاع سعر الغاز الطبيعي في تعاملات الأوروبية بنسبة 63 في المئة تقريبا خلال الأسبوع الحالي.
أوكرانيا والحلم الأوروبي

وافق الاتحاد الأوروبي الجمعة على ترشيح أوكرانيا وجارتها مولدوفا للانضمام إلى الاتحاد، وهي موافقة كلامية، وقد يستغرق تحويلها إلى أفعال سنوات عديدة في الوقت الذي تحتاج فيه كييف إلى موقف حازم وسريع يظهر التعاطف الغربي بمواجهة القبضة الروسية التي لا تتراجع عن تنفيذ خطط بوتين أيّا كانت الظروف والخصوم.
وتقدمت أوكرانيا بطلب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بعد أربعة أيام من تدفق القوات الروسية عبر حدودها في فبراير. وبعد أربعة أيام أخرى حذت حذوها مولدوفا وجورجيا وهما دولتان سوفياتيتان سابقتان أصغر حجما تتصارعان أيضا مع مناطق انفصالية تحتلها روسيا.
وكتب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على تويتر “إنها الخطوة الأولى على مسار العضوية في الاتحاد الأوروبي التي ستقرب بالتأكيد انتصارنا. بسبب شجاعة الأوكرانيين على وجه التحديد يمكن لأوروبا أن تخلق تاريخا جديدا من الحرية وأن تزيل أخيرا المنطقة الرمادية في أوروبا الشرقية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا”.
وأكد إعلان الجمعة كيف كان للحرب تأثير معاكس وهو إقناع فنلندا والسويد بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والآن للاتحاد الأوروبي للشروع في التوسع المحتمل الأكثر طموحا منذ الترحيب بدول أوروبا الشرقية بعد الحرب الباردة.
وقلل بوتين من شأن قضية الاتحاد الأوروبي “ليس لدينا شيء ضده. إنه ليس كتلة عسكرية. من حق أيّ دولة الانضمام إلى اتحاد اقتصادي”.
ومن المتوقع أن يصادق زعماء دول الاتحاد الأوروبي على قرار الترشح للعضوية في قمة الأسبوع المقبل.
وأبدى زعماء الدول الثلاث الكبرى، ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، تضامنهم الخميس بزيارة كييف مع رئيس رومانيا.
ويتطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سنوات من الإصلاح الإداري إذ أن هناك “35 فصلا من الاشتراطات” تحدد المعايير التي يتعين الوفاء بها في مجالات تمتد من السياسة القضائية والخدمات المالية إلى سلامة الأغذية.
والعضوية غير مضمونة. فعلى سبيل المثال تأجلت المحادثات مع تركيا لسنوات، وهي عضو مرشح منذ عام 1999.