التجسس عامل أساسي في صنع القرار رغم إدانته

أثيرت في فرنسا ضجة سياسية كبيرة حول تجسس الاستخبارات المركزية الأميركية على رؤساء فرنسا الثلاثة الأخيرين؛ جاك شيراك، نيكولا ساركوزي والرئيس الحالي فرانسوا هولاند. وسارعت الرئاسة الفرنسية إلى الاحتجاج لدى الولايات المتحدة وإدانة هذه الممارسات غير المقبولة، كما تناولت مختلف وسائل الإعلام الفرنسية هذه الحادثة في تعاليقها السياسية والتحاليل التي أنجزتها بغاية إبراز خطورة هذه الممارسات الأميركية على العلاقات الفرنسية الأميركية. ولقد سبقت الضجة الفرنسية هذه ضجة ألمانية مماثلة عندما تم تسريب وثائق حول التجسس الأميركي على مكالمات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
وقد تمت محورة كل الجدل الإعلامي والسياسي حول مدى أحقية الولايات المتحدة باللجوء إلى أساليب التجسس على رؤساء الدول التي تدخل ضمن خانة الدول الصديقة لواشنطن، وحول مدى أخلاقية مثل هذه الممارسة. والواقع أن قضية التجسّس في العلاقات بين الدول ليست وليدة الظروف الراهنة وإنما تدخل ضمن النشاطات العادية عبر التاريخ، لما توفره المعلومات التي يتم الحصول عليها من فرص لإنجاح الخطط التي تبلورها والمساعدة على إفشال الخطط المضادة.
ويعتبر الحصول على المعلومات في مختلف المجالات ركنا أساسيا من أركان صنع القرار في هذا المجال. غير أن المعلومات ليست متاحة في أغلبها للجميع، وفي كل الأوقات، لذلك يتم البحث عنها بكل الطرق والوسائل الممكنة بما في ذلك الطرق السرية وربما أساسا بهذه الطرق.
وعادة ما يتم نعت هذا البحث الخفي وغير المعلن عن المعلومات بالتجسّس الذي تتولاه مؤسسات مختصة في مختلف دول العالم، التي لديها جميعها مؤسسات مختصة في مكافحة التجسس. ورغم ما توحي به هذه الكلمة من كون التجسس موجها إلى الخصوم السياسيين أو الأعداء بصورة حصرية، فإنه، على العكس من ذلك، موجه إلى كل القوى التي تصنف بكونها مغايرة للدولة التي تقوم بالتجسس.
من بين أهداف أنشطة التجسس تمكين الدولة والقوى المختلفة التي تمارسه من معرفة كل ما يمكن معرفته عن سياسات وخطط الخصوم والأعداء
ومن بين أهداف أنشطة التجسس تمكين الدولة والقوى المختلفة التي تمارسه من معرفة كل ما يمكن معرفته عن سياسات وخطط الخصوم والأعداء، إضافة إلى التعرف على توجهات وممارسات الأصدقاء في مختلف المجالات، وهو من شأنه أن يوفر للدول والقوى المتفوقة في هذا المجال فرصا ذهبية لاتخاذ مبادراتها السياسية في الوقت المناسب وفي الاتجاه الصحيح. ويصدق هذا على المبادرات السياسية التي يمكن للأصدقاء تأييدها والالتفاف حولها لأنهم يرون فيها تحقيقا لبعض مصالحهم الأساسية وتخدم استراتيجياتهم المستقبلية.
وتساعد أعمال التجسس في مختلف المجالات وخاصة في قضايا النزاع بين الخصوم والأعداء على التعرف على أقصى ما يمكن التعرف عليه من معطيات تتحكم بهذا القدر أو ذاك في صنع القرار السياسي، وقد تمكن هذه الأعمال متى تم إحداث اختراق جوهري في جبهة الخصم من معرفة جل ما يتعلق بخطط تحركه في المستقبل، والوسائل التي يجندها لذلك، في الزمان والمكان المحددين. ومن شأن هذا التعرف المسبق على خطط الخصوم والأعداء العمل على إحباطها قبل مباشرة تنفيذها أو التقليل من نتائجها السلبية ما لم تتم إمكانية إفشالها قبل فوات الأوان لأن عامل توقع هجوم العدو والاستعداد لمواجهته يساعد دوما على احتواء الهجوم من خلال المباشرة في تنفيذ الخطط التي تم وضعها تحسبا لمثل هذا الواقع الجديد.
وفي هذا الصدد، فإن التجسس الأميركي على مختلف دول العالم هو تحصيل حاصل، ولا ينبغي أن يثير استغراب أي كان. وليس هناك أدنى شك في أن القيادات الفرنسية والبريطانية أو غيرها لم تكن قد فوجئت بكونها قد خضعت لتجسس أميركي في مختلف الحقب خاصة منذ أصبحت الولايات المتحدة تقود الدول الغربية. فهذا يدخل ضمن منطق الأشياء في العلاقات الدولية، قديمها وحديثها. ولعل الجديد في هذه المسألة بالذات يكمن في الكشف عن حقيقة هذا التجسس وحجمه، الذي لم يترك لأي مستوى من مستويات هرم السلطة احتراما أو حرمة وحصانة بما في ذلك رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء.