التجريد والغموض وعالم لا يبدو كالعالم

المخرج علاءالدين سليم يحذر في فيلمه "طلامس"، المشاهد، حيث يكشف عن أحداث غامضة، فهو مولع بلعبة الغموض والتعمية، يستدرج إليها المشاهدين ليداعبهم بخياله.
الجمعة 2019/06/21
المرأة التي تسحرها الغابة

ضمن تظاهرة “نصف شهر المخرجين” بمهرجان كان السينمائي الـ72، شاهدت الفيلم التونسي “طلامس” ثاني أفلام المخرج علاءالدين سليم بعد فيلمه الأول “آخر واحد فينا” الذي حقق أصداء إيجابية عند عرضه في عدد من المهرجانات السينمائية.

لم يكن “آخر واحد فينا”، الفيلم الأول للمخرج التونسي علاءالدين سليم (إنتاج 2017) كما روجت له الدعاية، فيلما “عن ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا”، بل كان موضوع
الهجرة فقط مدخلا إلى الفيلم الذي سرعان ما يعرج على طريق آخر مختلف تماما.

وكان واضحا من البداية أن علاءالدين سليم مشغول بالبحث في العلاقة بين الإنسان والطبيعة، فبعد أن يحاول شاب أفريقي العبور إلى أوروبا عبر تونس، يفشل ويضل طريقه ويجد نفسه داخل غابة، يكتشف أماكن مهجورة في داخلها ربما لم يكتشفها أحد من قبله، يرتد للعيش كأحد الكائنات البدائية، يتماهى مع الطبيعة ومع الحيوانات، يعيش على ثمار الأشجار والفرائس التي يصطادها، لكن دون أن يتطوّر الموضوع إلى دراما، ودون أن تكون هناك رؤية سينمائية تتجاوز الوصف الخارجي رغم أنه قد يكون مبهرا، في استخدام الكاميرا والتكوينات البصرية واللونية، والتعامل مع الصمت ولغة الطبيعة.. وغير ذلك.

هذا النزوع نحو “التجريد” هو نفس سمة الفيلم الثاني لعلاءالدين سليم، المعنون بـ“طلامس”، و“طلامس” هي الكلمة الدارجة المستخدمة في تونس المرادفة لـ“طلاسم” (جمع طلسم).

والفيلم يبدو ملتبسا بدايةُ من فكرة “الطلاسم”، وكأن المخرج يحذرنا من البداية، أننا سنشاهد مجموعة من “الطلاسم” الغامضة التي لن نفهمها، فهو مولع بلعبة الغموض والتعمية، يستدرج إليها المشاهدين ليداعبهم بخياله، ويتركهم وهم يتساءلون عمّا يقصده، وهذا منهج خاص به وهو يجيد التعامل مع هذا النوع السينمائي الذي يحفر لنفسه طريقا مستقلا متميزا دون شك في السينما التونسية بل والعربية.

الخيال الجامح

هل يمكن اعتبار الغابة في الفيلم معادلا للمجهول، أي الجانب الآخر من عالمنا الذي لا نعرف عنه سوى القليل؟
هل يمكن اعتبار الغابة في الفيلم معادلا للمجهول، أي الجانب الآخر من عالمنا الذي لا نعرف عنه سوى القليل؟

أفضل ما في الفيلم ما يتمتع به من خيال ومن لغة في التعامل مع الصورة، ومحاولة تصوير فكرة توحد الإنسان مع الطبيعة، وارتداده إليها ثم فكرة الاستمرارية عبر الإنجاب.

ولكن هذه الأفكار تظل مجرد استنتاجات منتزعة من داخل سياق شديد الغموض لا يصل في نهايته إلى فكرة واضحة، وينتهي برسالة سلبية عن دور المرأة في العالم ينحصر في
كونها “أداة للإنجاب” والمحافظة على “النوع”.

وعندما تحاول المرأة في الفيلم إرضاع الطفل الذي تنجبه، لا تجد حليبا في ثديها الذي يجف، ويكون “الرجل” جاهزا على المستوى الجسدي لكي يصبح هو البديل فيقوم بإرضاع الطفل! البداية جيدة توحي بأننا سنشاهد عملا ذا صلة بالواقع التونسي الذي لم يتغير كثيرا من زاوية علاقة السلطة بالبشر بعد الثورة، أو بالأحرى علاقة الجيش بالمجندين الشباب.

ويبدأ الفيلم بشاب لا نعرف من اسمه سوى حرف “س”، مجند في الجيش ضمن مجموعة من الجنود يقومون بتدريبات في الصحراء، بينما بطلنا يبدي تذمره من الحياة الشاقة في الجيش ويسخر من فكرة مكافحة الإرهاب التي يتسترون بها حسب قوله للإبقاء على الشباب في الخدمة العسكرية.

وبعد وفاة والدته تتاح للشاب فرصة النزول في إجازة، لكنه يتقاعس عن العودة إلى الجيش فتطارده الشرطة العسكرية ليهرب داخل غابة، ويضل فيها لا يمكنه الخروج منها، فيبقى هناك ويخلق عالمه الخاص.

في الوقت نفسه هناك امرأة يختصر اسمها أيضا في حرف “ف”، هي زوجة أحد رجال الأعمال الأثرياء، وهي حامل منه في الفترة المتأخرة، لكنه يتركها في المنزل الفسيح ويسافر، العلاقة بينهما لا تبدو على ما يرام، وتحت تأثير شعورها بالوحدة تغادر “ف” المنزل، وتتجول في الغابة القريبة لتلتقي بهذا الشاب الذي يحتجزها ثم يقيم معها علاقة غريبة، ومع مرور الوقت ترضخ راضية للبقاء معه.

الصورة تتضح بمرور الزمن، فقد استطالت لحية “س” في الغابة وتغيرت كثيرا ملامحه، لكنه لا يتكلم ولا يفصح عما يريده، هنا سيدخلنا الفيلم في اللعبة الذهنية والبصرية التي يفضلها علاءالدين سليم.

تساؤلات

تتمثل هذه اللعبة في طريقة التخاطب التي يبتكرها “س” ويتعامل بها مع “ف” باستخدام لغة العيون.. مجرد النظرات.. مع ظهور ترجمة بالكلمات لما يقولانه لبعضهما البعض على الشاشة، لعبة جديدة تذكرنا بما شاهدناه في فيلم آخر من أفلام مسابقة مهرجان كان، هو الفيلم الروماني “الصافرون” Whistlers The الذين ابتكروا طريقة للتخاطب عن طريق الصفير! والفيلم يستمر أكثر من ساعتين، لكنه لا يتجاوز البعد الخارجي السطحي للموقف الغريب الذي يضع فيه الرجل مع المرأة.

ربما يريد أن يردنا إلى بداية الخليقة، وكيف أن الإنسان سيتمكن دائما من البقاء والإنجاب لتعمير الأرض، ولكن أي أرض وبأي قوانين وهل تتحقق الحرية بالهروب من الواقع؟، وما هو مصير المرأة بعد أن تنجب الطفل ويأخذه الرجل ويختفي به؟ هل ستعود إلى زوجها بعد أن تنجب طفلها ويحمله الرجل ويذهب به إلى حيث يخلق معه عالما أفضل؟ هل سيعثر أتباع زوجها على “س” ويعتقلونه وينتشلون الطفل الرضيع منه؟ هل يمكن اعتبار الغابة معادلا للمجهول عموما، أي الجانب الآخر من عالمنا الذي لا نعرف عنه سوى القليل؟ أسئلة كثيرة تظل معلقة، لكن هذا الغموض تحديدا هو هدف “طلامس”، أي أنه غموض مقصود دون أن يحمل فلسفة ما من ورائه، أو على الأقل هذا ما عجزنا عن العثور عليه بين طيات
الصور واللقطات والمشاهد الكثيرة المصطنعة.

إنه أكثر ترهلا في السرد من الفيلم السابق، بسبب التكرار والاستطرادات والتوقف طويلا أمام التكوينات البصرية للقطات الطبيعة التي تنقلنا من الواقع إلى عالم آخر غامض، لكن “طلامس” يعد أيضا امتدادا للفيلم السابق لمخرجه بميله الواضح إلى التجريد والرمز وطرح الألغاز. وفي جميع الأحوال يبقى تجربة شديدة الخصوصية، ربما يتمكن من تطويرها ومنحها معانٍ أكثر عمقا في أفلامه القادمة.

16