التبصير ملاذ السوريين الباحثين عن أمل أو مفقود

كشف الغيب مهنة لكثيرات تقطعت بهن السبل بفقدان المعيل.
الأحد 2024/06/02
حيرة لا تنتهي

انتشرت ظاهرة البصارات والمنجمات في ساحات دمشق بعد الحرب التي أنهكت البلاد وأفقدت الكثير من العائلات أبناءها المختطفين أو المعتقلين ويبحث ذووهم عن أي أمل للوصول إليهم ولو كان عن طريق “البصارة” التي تعتمد في تنبؤاتها على قوة الملاحظة ولهفة الزبون.

دمشق - لا تخلو الساحات والحدائق العامة في دمشق من مجموعة من العرافات أو ما يطلق عليهن باللهجة المحلية “البصّارات”، يفترشن العشب مع أولادهن بصورة شبه ثابتة، وبات العديد منهن مظهرا ثابتا من مظاهر هذه الأماكن العامة.

والمختلف في عمل البصارات في المدن السورية أنه بات أكثر من كشف الحظ في الأيام المقبلة أو تقديم النصائح للمقبلات على الزواج أو مساعدة الشابّات على الاختيار الصحيح، بل أصبحت مهنة منظّمة لهؤلاء النساء اللاتي جذبن فئة أخرى من الزبائن وهم من يبحثون عن أي خيط لمعرفة مصير أبنائهم المختطفين أو المعتقلين.

وتفرد “البصارة” كفّها كاشفة عن أحجارها المختلفة بين قشور الثمار المجففة والأصداف البحرية، لتبدأ بالحديث عن خفايا الأسرار والتوقعات وحتى وإن كانت متشابهة جدا بين الزبائن إلا أن هناك من يبحث عن بارقة أمل تلون أيامه التي باتت بلون قاتم واحد.

وكانت قراءة الطالع عبر كف اليد أو فنجان القهوة، عادة درجت عند بعض السوريين، يتلمسون بها ما هو مجهول ومغيب عنهم، ويريدون أن يعرفوه أملا بفرص أفضل في الحياة على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية.

لكن اليوم لم تعد تكفي قراءة الفنجان في الجلسات النسائية الصباحية أو المسائية للإجابة على الأسئلة المتراكمة، حيث تبدلت الطلبات وباتت غاليبتها تدور حول بحث هؤلاء النسوة عن ذويهن المغيبين في السجون أو المختطفين بعد أن فشلت مساعيهن في الوصول إليهم أو الحصول على خبر عنهم إن كانوا أحياء أو أمواتا.

الكثير من النساء المهجرات يمتهن مهنة التبصير لتأمين قوت عائلاتهن وأولادهن بسبب فقدان المعيل في السنوات الأخيرة

ولا تشترط العرافات وفق طبيعة عملهن مبلغا محددا لقاء البحث عن المختفين من السوريين، بل يبدأ عملهن بالتنجيم لقاء إعطائهن أي مبلغ من الزبون لا يقل عن 5 آلاف ليرة (1/3 دولار).

وتقول إحدى السيدات التي تبحث عن زوجها المختفي منذ العام 2013 “نزحت من مدينة موحسن في دير الزور إلى دمشق بعد أن استهدفتنا الطائرات الحربية عام 2013. وأثناء توجهنا إلى دمشق تم توقيف زوجي البالغ من العمر 38 عاما على حاجز هرابش في المدينة، ومنذ ذلك الوقت لم نعدم وسيلة للبحث عنه”.

وأضافت “اضطرت العائلة إلى بيع قطعة أرض لتأمين مبلغ مالي لعدد من الأشخاص الذين قدموا لها وعودا للكشف عن مصيره، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل”.

وتتابع “بعد النزوح من دير الزور، اخترنا السكن في دمشق بأحد البيوت جنوب دمشق، وفي إحدى المرات نصحتني إحداهن بالذهاب إلى عرافة مشهورة الآن، وتتواجد يوميا في إحدى ساحات دمشق، وأنا لم أجد أي مانع من ذلك، لاسيما وأن العرافة لا تشترط الحصول على مبلغ مالي كما قيل لي”.

ويختلف العابرون في تجاوبهم مع “البصارة” وطريقة حكمهم على عملها، خصوصا أنها باتت مهنة على درجة عالية من التنظيم والانتشار في الآونة الأخيرة. فهناك متعاطف مع هيئتها الرثّة وثيابها القروية والبؤس الواضح على ملامحها، فيما الآخر معارض لجميع أعمال التنجيم والتنبؤ على اعتبار أنه عمل قائم على التطفل على الآخرين والاستخفاف بعقولهم لأخذ أموالهم.

وتنظر فئة كبيرة من الناس إلى البصّارات على أنّهن يمارسن النصب والاستغلال مع ذوي العواطف المضطربة أو أصحاب المشكلات التي لا حل لها أو الأقل تعلّما من الناس، ولاسيما أن السوريين يائسون في معظمهم، بسبب تردّي الظروف المعيشية وتأزّم حالاتهم النفسية بعد سنوات الحرب الطويلة، الأمر الذي يجعلهم في أمس الحاجة إلى كلمة طيبة أو توقعات سعيدة على مبدأ “الغريق يتعلّق بقشّة”.

رحلة البحث عن أمل في بقاء المعتقلين على قيد الحياة من أصعب الرحلات وأكثرها إرهاقا لذويهم، لذلك تقودهم إلى البصارات
رحلة البحث عن أمل في بقاء المعتقلين على قيد الحياة من أصعب الرحلات وأكثرها إرهاقا لذويهم، لذلك تقودهم إلى البصارات

ويرى عدد كبير من الناس أن البصارات يشبهن بقية النساء العاملات، اللاتي دُفعن بالفقر والفاقة إلى العمل في أي مهنة للإبقاء على رمق الحياة، وإن كان هذا العمل ينطوي على بيع الكلام واختلاق الأكاذيب.

ويعتبر هؤلاء أن كذب البصارات يبقى مقبولا أمام كذب فئات أخرى من المجتمع.. فالحكومة تكذب والمسؤولون يكذبون والجميع يكذب، وربما كان كذب البصّارات هو الأقل ضررا في المجتمع!

وتقول أم محمد إنها لا تؤمن بعمل العرافات والمنجمين وتوقن بالحديث الشريف الذي يقول “من أتى عرافا لا تقبل صلاته 40 يوما”، إلا أنها شعرت بتأنيب الضمير بعد إلحاح صديقاتها عليها أن تلجأ إلى معرفة أخبار ابنها كحل أخير عن طريق إحدى العرافات.

وتعد رحلة البحث عن أمل في بقاء المعتقلين على قيد الحياة من أصعب الرحلات وأكثرها إرهاقا لذويهم، لذلك تقودهم أحيانا إلى البصارات.

يخشى الآلاف من السوريين ممن فقدوا التواصل مع ذويهم بسبب الاعتقال التعسفي أو الإخفاء القسري من عدم رؤيتهم إلى الأبد، لهذا هم “متعلقون بقشة”، كما يقول محامون وحقوقيون يرافعون في المحاكم ويساعدون الأهالي في الوصول إلى ذويهم المختفين.

بعضهم كان يتفاجأ بأن ابنه قد توفي عند استخراجه للأوراق الرسمية كسحب قيد النفوس للعائلة، وآخرون وصلتهم أنباء أن ابنهم قد توفي ليفاجأوا بإطلاق سراحه فيما بعد.

في انتظار البصارة
في انتظار البصارة

وتعتبر الشعوذة والتنجيم وما تفعله العرافات والسحرة ومن يقرأ بالكف وكل ما يشبه تلك الطرق من العلم بالغيب، نوعا من “الإخلال بالثقة العامة”، بحسب خبراء في القانون، ويعتبر الفقهاء القانونيون أن “الثقة العامة ميثاق مفترض بين أفراد المجتمع بألا يخونوا بعضهم بعضا وألا يتحايلوا على بعضهم البعض بأي وسيلة من وسائل التحايل”.

ويصنف المشرّع السوري هذا الفعل على أنه من “القباحات” التي خصص لها باب في قانون العقوبات السوري، واعتبرت هذه الجسمرة مخالفة تمسّ الثقة العامة بحسب المادة 754 ويعاقب الفاعل بالحبس التكديري ليصل إلى عشرة أيام، وتشدد العقوبة في حال التكرار لتصل إلى ستة أشهر مع الغرامة المادية، وأما إن كان الفاعل أجنبيا فيغادر البلاد.

وبحسب القانون السوري، فإن مهنة التبصير وممارسة التنجيم تعتبر جسمرة مخالفة للقانون حين تترافق هذه الأفعال مع الربح المادي، غير أن مهنة العرافة أو التنجيم تبقى دون مساءلة أو محاسبة لأنه لا أحد يذهب إلى المحاكم لمقاضاة العرافات نظرا للحاجة إليهن، ما يجعل هذه المهنة مستمرة حتى أيامنا هذه.

وتركز البصارة فاطمة عيونها على المارة لتعرف كيف “ستلقط” رزقها، وتقول عن سبب إقبال الزبائن عليها “من الله، لمجرد توقف الصبية أو الرجّال أمامي ونظرت في عيونهم، تُفتح أساريرهم، وتُكشف حياتهم أمامي، ويدفعون لي بدورهم بعد أن يعرفوا الحقائق”.

ولم تبح فاطمة بالكثير حيال عملها ومكان ولادتها وتعلمها وكيف استطاعت أن تعلم الغيب، واكتفت بالنظر إلى المارة أو طلبها بسؤال زميلتها في المهنة على الطرف الثاني، والتي لم تتحدث بأي شيء، بل اكتفت بالنظر كما فاطمة، أشبه بكلمة سر بينهن تُفعل عند الإحساس بالخطر.

وتعرف الغجريات في سوريا بأنهن من يمارسن عمل التنجيم والتبصير منذ سنوات طويلة قبل الحرب، لكن في السنوات الأخيرة باتت الكثير من النساء المهجرات يمتهن هذه المهنة لتأمين قوت عائلاتهن وأولادهن بسبب فقدان المعيل.

وتقول فاطمة عن المبلغ الذي تجنيه كل يوم أنه متفاوت بحسب عدد الزبائن و”كرم” كل واحد منهم، إذ تميل النساء، ويشكّلن النسبة الأكبر بين الزبائن، إلى منح البصارة “آلافا أكثر” لكونهن أكثر عطفا وتجاوبا خلال جلسة التبصير، ولا تقل الغلة اليومية عن 40 ألف ليرة سورية، وقد تصل إلى أكثر من 150 ألفا في مرات قليلة.

Thumbnail

وتعاني فاطمة وقريباتها اللاتي يعملن معها في التبصير من سوء الأحوال المعيشية، لاسيما أنهن غير متعلمات ولا يملكن مهنة أو حرفة يعملن بها، والأهم من ذلك هو عدم وجود معيل بسبب غياب الزوج أو فقدانه، الأمر الذي يجعل من التبصير طريقة لتجاوز “العطالة عن العمل”.

وترى فاطمة في عملها، طريقة لجني المال دون أن تلجأ إلى التسوّل (الشحادة)، وفق وصفها، فهي تأخذ المال مقابل خدمة “النصيحة” و”التحذير” و”تبييض الفال”، كما أنّه يغنيها عن العمل في أماكن غير محترمة أو في أعمال قاسية على النساء كالتنظيف والخدمة في المنازل، والتي تراها فاطمة، بحسب تعبيرها، “أعمالا مذلّة”.

وتعتمد البصارة في تعاملها مع الزبون على ملاحظة تعابير وجهه مع كل جملة تلقيها أمامه، كأن تخبره بأنّ سفرا أو ارتباطا ينتظره، فيبتسم هو بطريقة عفوية مبديا شيئا من الحماسة لمعرفة المزيد.. ما يدفعها إلى متابعة الحديث عن الأمر نفسه مع إعطاء تفاصيل عامّة تصحّ في جميع الحالات المماثلة.

ويعتمد عمل البصارة على قوة الملاحظة والتنبه إذ لا تتوانى في إلقاء أسئلة ذكية، ولاسيما إذا ما حصل أمامها موقف تستطيع استغلاله لصالحها، كأن ترى زوجين أو عاشقين يتشاجران، أو فتاة تحمل كتبا دراسية، أو شابا يظهر عليه الحزن رغم هيئته التي توحي بوضع مادي جيد، عندئذ تتدخل لتحلّ خلافا أو تبشّر بالنجاح القريب أو تعد بانكشاف الغم.

وتحاول بعض العاملات في التبصير إثارة شيء من تعاطف الزبائن، إذا ما اتسع الحديث وأبدى الزبون تجاوبا معهن.

ويخلط الناس عادة بين المسميات التي يطلقونها على أعمال التنبؤ والتوقعات، فقراءة الكف تختلف عن قراءة الفنجان أو التنبؤ المعتمد على مواضع الأجرام السماوية (التنجيم)، إذ لكل منها طريقة موروثة وأسلوب مختلف ووسائل استدراج وإقناع.

أما الشعوذة وإبطال السحر واستحضار الجن والأرواح، فهي أعمال تتمّ في الخفاء بسبب التضييق عليها قانونيا ورفضها دينيا، إلى جانب تخوّف عدد كبير من الناس منها، فهي تجارة خاصة بعض الشيء، لها روّادها وزبائنها في أوكار بعيدة عن الملاحقة والمراقبة.

15